القادة نيوز

الضاحك ” .. قصة قصيرة لهاينرش بول .. ترجمة د. نيفين صبح

 يتملكني الارتباك, إذا ما سُئلت عن مهنتي: يحمر وجهي, أتلعثم في الرد, نعم أنا؛ ذاك الشخص المعروف عنه ثقته بنفسه.

أحسد الناس الذين بإمكانهم قول: أنا بنَاء.

أحسد مصففي الشعر, المحاسبين والأدباء على بساطة تقديمهم لأنفسهم, لأن المهن التي يعملون بها تُعرَف نفسها بنفسها ولا تحتاج مزيدا من الإيضاح.

أما أنا فأجدني مضطرا للإجابة على مثل هذه الأسئلة بالإجابة التالية: “أنا ضاحك” مثل هذا الاعتراف يستلزم اعترافا آخر, لأنني أجدني مجبرا بعدها أن أجيب وبمنتهى الصدق بكلمة “نعم” على السؤال الذي يليه وهو: “هل تكسب رزقك من هذه المهنة؟”.

في الواقع أنا بالفعل أكسب رزقي من ضحكي, وأعيش منه في مستوى جيد, لأن ضحكي – من منطق تجاري- مطلوب ورائج. أنا ضاحك ماهر, ضاحك متعلم, لا أحد يستطيع أن يضحك مثلما أفعل, لا أحد متمكن من تفاصيل فني مثل تمكني منه.

لفترة طويلة من الزمن كنت أُعرَف نفسي – تحاشيا للتوضيحات المزعجة – بوصفي ممثلا, غير أن مهارات وجهي التعبيرية ومهارات الحديث عندي محدودة للغاية, لدرجة تجعل هذا التعريف يبدو منافيا للحقيقة: أنا أحب الحقيقة, والحقيقة هي أنني أمتهن الضحك, أنا ضاحك. أنا لست مهرجا ولا ممثل هزلي.

أنا لا أبهج الناس, لكني أجسد البهجة: أنا أضحك كإمبراطور روماني أو كخريج مدرسة الثانوية مرهف الحس, وضحك القرن السابع عشر مألوفا عندي مثله مثل ضحك القرن التاسع عشر, وإذا اقتضي الأمر أضحك ضحكات كل العصور, كل الطبقات الاجتماعية و كل الفئات العمرية: لقد تعلمت الضحك, مثلما يتعلم المرء ربط حذائه.

الضحك على الطريقة الأمريكية أحفظه عن ظهر قلب, وكذلك الضحك على الطريقة الأفريقية, ضحك الجنس الأبيض, الأحمر والأصفر – وفي مقابل المكافأة المناسبة, تجلجل ضحكاتي بحسب ما يتطلب العرض. إنني ذلك الشخص, الذي لا يمكن الاستغناء عنه, فأنا أسجل ضحكاتي على الأسطوانات, وعلى أشرطة التسجيل ومخرجو المسلسلات الإذاعية يعاملونني بكل تقدير واحترام.

أنا أضحك ضحكة صاحب المزاج السيء, وصاحب المزاج المعتدل, أضحك كمن يضحك بشكل هستيري – أضحك ككمساري الترام أو كمتدرب في قسم الأغذية والمشروبات؛ أضحك الضحك الصباحي وضحك المساء, أضحك الضحك الليلي وضحك ساعة الشفق.

باختصار: دائما أينما وكيفما يُطلب الضحك, أقوم بذلك على أكمل وجه. هل سيصدقني أحد, إذا ما قلت أن هذه المهنة شاقة للغاية, خصوصا – وهذا هو تخصصي- أنني أستطيع أن أتحكم في عدوى الآخرين بالضحك؛ والذي به أصبحت لا غني عني خصوصا لدي كومديانات الدرجة الثالثة والرابعة, الذين يرتعدون خوفا – ولهم كل الحق في ذلك – من إخفاقهم في توصيل النكتة المرجوة, لهذا أجلس تقريبا كل ليلة في أماكن متفرقة في المسارح كطريقة ماكرة لانتزاع التصفيق من الجمهور, بأن أعديّهم بالضحك للتغطية على الجوانب الضعيفة داخل البرنامج.

لهذا يجب أن يحدث ذلك بمنتهى الدقة: فغير مسموح بالمرة أن تنطلق ضحكاتي البريئة أو الشرسة قبل اللحظة المخصصة لها أو حتى بعدها, بل يجب أن تأتي دائما في اللحظة المحددة – عندها أنفجر ضحكا طبقا للخطة المرسومة – فيقرقع الجمهور ضحكا مع ضحكاتي وتتم المهمة بنجاح.

بعد ذلك أتسلل منهكا إلى غرفة تغيير الملابس, أرتدي معطفي في منتهى السعادة, لأنني أخيرا انتهيت من عملي.

عند عودتي للمنزل أجد العديد من البرقيات في انتظاري ” نحن في حاجة ماسّة لضحك سيادتكم.

تسجيل البرنامج يوم الثلاثاء”, فأجدني بعدها قابعا لعدة ساعات في قطار عالي التدفئة, ألعن مصيري. الكل يمكن أن يتفهم, أنني أشعر بعزوف عن الضحك بعد الانتهاء من عملي أو حتى في العطلات: حالب الألبان مثلا يكون سعيدا, إذا ما سنحت له الفرصة نسيان البقرة, وكذلك البنّاء إذا ما استطاع نسيان المونة, النجارون لديهم غالبا في منازلهم أبوابا معطلة وأدراجا لا تفتح إلا بعد عناء.

خبازو الحلويات يحبون الخيار المخلل, الجزارون يفضلون هريسة اللوز بالسكر, الخبّاز يفضل النقانق على الخبز؛ مصارعو الثيران يحبون التعامل مع الحمام, الملاكمون تشحب وجوههم من الخوف, إذا ما أصيب أطفالهم بنزيف الأنف: نعم أتفهم كل ذلك, لأنني لا أضحك في وقت راحتي أبدا.

أنا شخص جاد للغاية, لدرجة أن الناس يعتبرونني – وربما معهم الحق في ذلك – شخصا متشائما. في الأعوام الأولى من زواجنا كثيرا ما كانت زوجتي تلح عليّ في الطلب قائلة: “فلتضحك يا رجل!”, و لكن بمرور الوقت تبين لها أنني لا أستطيع أن أحقق لها رغبتها تلك.

أشعر بالسعادة عندما أكون في حالة من الجدية العميقة, أمنح فيها عضلات وجهي المتشنجة وذهني المجهد فرصة للاسترخاء. نعم, يصيبني التوترأيضا من ضحك الآخرين, لأنه يذكرني بشدة بمهنتي. هكذا أصبح زواجنا صامتا هادئا, لأن زوجتي هي الأخرى نسيت الضحك: بين حين وآخر أضبطها متلبسة بابتسامة, فأبتسم أنا أيضا.

نتبادل الحديث بصوت خافت, لأنني أكره ضوضاء المسارح وأكره الضجيج الذي يعم غرف التسجيل.

الذين لا يعرفونني يعتبرونني إنسانا متحفظا.

وربما أنا كذلك, لأنني في الغالب لا أفتح فمي إلا عندما يتوجب على الضحك. أمضي في حياتي بملامح خالية من الأحاسيس, وأسمح لنفسي بين الحين والآخر بابتسامة لطيفة, وغالبا ما كنت أحاول تذكر, هل سبق أن ضحكت في حياتي في الماضي أصلا أم لا.

أعتقد: لا, لأن إخوتي أخبروني, أنني كنت دائما شابا جادا للغاية. هذا أنا, ذلك الشخص الذي يستطيع أن يضحك بشتى الطرق, لكن لا يعرف كيف تبدو ضحكته.