كشف تقرير نشرته بوابة الأزهر الإلكترونية، أنه في صيف 2014 حققَّ تنظيم داعش الإرهابي في أقل من 60 يومًا مكاسب سريعة؛ حين سَيْطر بشكلٍ كاملٍ على الموصل العراقية، والرقة السورية، وحينها ندَّد المجتمع الدولي واستنكر هذه الأفعال الإجرامية والمذابح الوحشية للتنظيم الأسود، لكن بعد إعدام “داعش” رهائن أمريكيين أسرَهم في سوريا والعراق، تمَّ إنشاء تحالف دولي كبير يضمُّ قرابة 60 دولة، هدفه محاربة تنظيم داعش الإرهابي. وفي خضم هذه الأحداث المتسارعة لم تستطع كثير من الجماعات والتنظيمات الجهادية حسم موقفها من اللقيط الجديد “تنظيم داعش” ؛ فلم يكد تنظيم القاعدة بقيادة أيمن الظواهري ينهي ترحيبه بدخول داعش الحرب ضد النظام السوري حتى اندلعت الخلافات بين التنظيمين، والتي وصلت إلى حدِّ القتال؛ نظرًا للخلافات الفكرية والإستراتيجية الكثيرة، والتي يطول شرحها وتفصيلها. وبعد أكثر من 1095 يومًا من الحرب التي أعلنها التحالف الدولي ضد داعش، والتي شنَّ فيها التحالف أكثر من 23 ألف غارة على العراق وسوريا بكلفة وصلت إلى 13.6 مليار دولار، هُزم اللقيط الأسود هزيمةً ساحقة، وخسر كثيرًا من الأرض التي كان يسيطر عليها في العراق وسوريا. ولم تكن تلك الضربات العسكرية وحدها سواء ما قام به التحالف الدولي ضد داعش، أو حتى تلك الضربات التي مُني بها التنظيم من قِبَل تنظيماتٍ أخرى مخالفة لداعش، هي التي تفتُّ في عضد التنظيم، بل ظهرت أسبابٌ أخرى أضعفت التنظيم، وجعلت قوته تتهاوى وتضعُف شيئًا فشيئًا، تتمثل في الانشقاقات العديدة التي وقعت في صفوف التنظيم؛ لا سيما بعد الهزائم العسكرية الساحقة التي تعرض لها في الموصل العراقية، والرقة السورية، هذه الهزائم المتتالية شجَّعت بعض العناصر أن يعلنوا في إصدارات مرئية انشقاقهم عن التنظيم، بل والتحذير منه، وأنه مخالفٌ لتعليمات ومبادئ الدين الإسلامي، كما ظهر ذلك في إصدار بعنوان “معذرة إلى ربكم” نشرته جماعة “جند الإسلام” كشفت فيه كثيرًا من عورات التنظيم الخبيث، بل ووصفتهم بالغلاة، وأن دعوتهم هذه فتنة لا يقع فيها إلا الجهلاء، كما نوَّه الإصدار إلى محاولاتِ الكثيرين من أتباع التنظيم الهروب، ولكن باءت محاولاتهم بالفشل! هذه الانشقاقات ظهرت في كل مكان تواجد فيه التنظيم، وكانت ضربة لا تقلُّ قوةً وأثرًا عن الضربات العسكرية التي تلقاها التنظيم ، وذهبت بقوته المزعومة. وقد كانت لهذه الانشقاقات مقدمات منطقية كأنْ يعترض – مثلًا – بعض العناصر على قرارٍ أو تصرُّفٍ ما يريده أحد قيادات التنظيم، ولم تقتصر لغة الاعتراضات، ولهجة الرفض على العناصر التابعين للتنظيم؛ بل وصل الأمر إلى درجة القادة الكبار فقد كانوا يعترضون أحيانًا على خليفتهم المزعوم، والذي من المفترض أن يكون حاكمًا بأمر الله، وبالتالي يكون الاعتراض عليه بمثابة الاعتراض على الدِّين ذاته! فضلًا عن ذلك كان هذا الخلاف بالتأكيد موجودًا وبشكل دائم بين الأفراد والعناصر العاديين، والقادة الصغار، خصوصًا في ظل الهزائم المتتالية الماحقة. لم يقف التنظيم أمام هذه الحركات الانشقاقية والاختلافات الفكرية موقف المتفرج، بل حاول بكل سبيل لمَّ شمله والمحافظة على الروح المعنوية لأتباعه، وتعميق فكرة الرأس الواحدة المفكرة والمدبِّرة، والتي تنطلق في تصرفاتها مؤيَّدةً من الله، حتى لو أخطأت فإنَّه يكون ابتلاءً من الله واختبارًا لإيمان الطائفة المنصورة، على حدِّ زعمهم! بدأ التنظيم يتخذ إجراءاتٍ من شأنها أن تحافظ على النسيج التنظيمي لأفراده، مرة بالترهيب مثل الخبر الذى تداولته منصات داعش الإعلامية والذي يفيد إعدام عدد من عناصره جنوبي مدينة الموصل بينهم 18 قياديًّا، بتهمة محاولة الانقلاب على التنظيم وزعيمه أبو بكر البغدادي، ومرةً بالترغيب من خلال الإكثار من الإصدارات والرسائل التي تتكلم عن مكانة الأُخوَّة والاتحاد، ووجوب القتال تحت راية واحدة هي راية “الدولة الإسلامية”. لكن يبدو أن هذه الخلافات باتت واقعًا لا يمكن تجاهله بين عناصر التنظيم، وأن أوراق داعش المبعثرة من الصعوبة بمكانٍ جمعها وانصهارها في بوتقة واحدة مرة أخرى، ومما يدل على هذا مقالٌ نشر في مجلة النبأ في العدد «163» تحت عنوان ” الرباط المحكم ” يحث فيه التنظيم أتباعه على ضرورة الاقتداء بالمهاجرين والأنصار حين آخى النبي – صـلى الله عليه وسلم- بينهم، مع التأكيد على ضرورة إصلاح ذات البين ، كما أشار المقال إلى أن الأُخوَّة في الله عبادة ليس على من حصَّلها قلقٌ على ما فاته من حظوظ الدنيا ، وأن أجرها يُحرم منه من عظمت نفسُه في عينه، أو من كانت الدنيا أكبر همِّه ، وأنه لا جهاد بدون أخوة! ومن خلال هذه اللهجة بات واضحًا لكل ذي عينين أن الخلافات والنزاعات تعصف بالتنظيم عصفًا، أقلق ليله، وأرَّق مضجعه، يظهر هذا جدًّا عندما يختم الكاتب مقاله قائلًا : “فنسأل الله سبحانه أن يؤلف بين قلوب المجاهدين في كل مكان ” . إن هؤلاء بمناهجهم المغلوطة، وأفكارهم السقيمة، وعقولهم المريضة لَيَصدق فيهم الوصف المذكور في قوله تعالى: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} [سورة الحشر آية 14] ثم شتَّان بين الدعوة إلى الأُخوَّة والاتحاد لقتل الناس، وهدم الدول ونهب مقدراتها، والحصول على بعض المكاسب السياسية الرخيصة، وبين الأُخوَّة التي قام بها المهاجرون والأنصار، يوم أن ذابت بينهم القبليات والعصبيات والنَّعرَات الجاهلية، وأصبح لسان حالهم ومقالهم: هو سمّاكم المسلمين، يوم أن استطاع أسعد الخلق سيدنا محمد – صـلى الله عليه وسلم – أن يربط بين المتناحرين برباط الإيمان في مهرجان حبٍّ لم تعرف البشرية له مثيلًا، يوم أن آخى بين عليًّ القرشي، وسلمان الفارسي، وصهيبٍ الرومي، وبلال الحبشي، وانطلقوا جميعًا – بفضل هذه الأُخوَّة الصادقة يبنون ويعمّرون، يتقدّمون ويتكافلون، محافظين على العهود، مدافعين عن الوطن، غير متنكرين لأصحاب الديانات الأخرى. أين الثرى من الثريّا، وأين الحقُّ من الباطل، وأين الحقيقة من الافتراء؟! نعم، إنَّ الإسلام يدعو إلى الأخوة والتعاون، لكنها الأخوّة القائمة على البرِّ والتقوى كما قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى } [المائدة:2] لا تلك الأخوة القائمة على الإثم والعدوان، ولذا جاء في نفس الآية: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } [المائدة 2]. إنَّ منهج الصحابة الكرام في التعاون والأُخوَّة لم يخرج عن هذا المنهج القرآني، لقد كان منطلقهم من قوله – صلى الله عليه وسلـم: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره» [أخرجه البخاري برقم: 6952]. إذن لا يوجد في تعاليم الإسلام ما يؤيد أن يتعاون الناس فيما بينهم على هدم الدول، أو قتل الأبرياء، أو التنكيل بالضعفاء، وإخراج الناس من بلادهم، وطردهم من أوطانهم ، بل إنَّ هذا هو الظلم بعينه، والتنكُّر للدين، والانسلاخ من ربقته، مما يوجب على كل مسلمٍ، بل على كلِّ عاقلٍ أن يتصدى لهذا الفكر المنحرف بكل حزمٍ وقوة، وأن يظل السعي مستمرًا، والعمل دؤوبًا لاستئصال هذا المرض، واقتلاعه من جذوره، أملًا في إعادة الأمن إلى ربوع الدنيا كما أرادها ربُّها وخالقها جلَّ جلاله.