هل تريدون معرفة التاريخ الإجرامى عن الإخوان ضد قضاة مصر؟ هل تريدون معرفة حملات التشويه التاريخية التى قادوها ضد القضاء المصرى؟ وكيف أنهم دبروا المؤامرات ضد المستشار أحمد الزند ليبعدوه عن طريقهم، فخاب سعيهم، وكيف أنهم يعتبرون المستشار محمد شيرين فهمى خيرى ألد خصومهم، رغم إقرارهم بأنه أكثر القضاة عدلًا وعلمًا، وكيف أنهم ناصبوا السادة وكلاء نيابات أمن الدولة العداء، رغم أنهم يعاملون أثناء التحقيقات أحسن معاملة، هل تريدون معرفة لماذا دبروا محاولة لاغتيال المستشار تامر الفرجانى، المحامى العام الأول لنيابة أمن الدولة سابقا، رغم أنه كان أكثر رجال النيابة كفاءة ودراية، وأعلاهم فى دماثة الخلق، وإلا لماذا يسعون لتشويه المستشار خالد ضياء، المحامى العام الأول لنيابات أمن الدولة، ومعه المستشار محمد وجيه، المحامى العام الأول لنيابات أمن الدولة، ناهيك عن كراهيتهم الشديدة للمستشار العملاق إبراهيم صالح، وغيرهم وغيرهم؟ أنا يا سادة فى الطريق لإنهاء كتاب يروى لكم سيرة إخوان الشياطين تجاه قضاء مصر الرفيع، صاحب التاريخ والمكانة، وستعرفون منه حقائق جعلوها وهمًا وهم يزيفون التاريخ، وحقًا جعلوه باطلًا وهم يمارسون الكذب، وللأسف وقع كثيرٌ منا فى حبائلهم، لأن بعضنا صدَّقَ أنهم يرفعون راية الإسلام، وكم من الجرائم ارتكبت باسم الإسلام، وكم من الموبقات اقترفت باسم الدين والشريعة.
من أين نبدأ؟ ومن أى زمن؟ سنعود معًا إلى صباح أحد الأيام من زمن قديم صدرت فيه الحركة القضائية، وفى إحدى صفحات هذه الحركة وجدنا أن القائمين على أمر السلطة القضائية فى البلاد قد كتبوا فيها: «نقل المستشار أحمد بك الخازندار من محكمة استئناف الإسكندرية إلى محكمة استئناف القاهرة» وحين حط المستشار رحاله فى القاهرة أصبح رئيسًا لمحكمة جنايات «مصر» بمحكمتها العتيقة الكائنة فى منطقة باب الخلق، ويا لهذى المحكمة العريقة التى بدأ تشييدها فى عهد الخديو إسماعيل وتم افتتاحها فى عهد الخديو توفيق عام ١٨٨٤ لتشهد بدايات عصر «المحاكم الأهلية».
كانت هذه المحكمة مفخرة لمصر ولتاريخ القضاء فيها، فقد بدأت عملها من مبناها الذى أطلق عليه المصريون وقتها اسم «المتحف» إذ كانوا يظنون أنه أقيم لكى يكون متحفًا مصريًا يعرض حضارة مصر القديمة، فإذا به يؤسس لحضارة مصر الحديثة، ومن أسفٍ أن بعضنا لا يعلم أن «القضاء» هو البناء الأول لأى حضارة، وأن قضاء مصر بمبانيه ومعانيه كان هو الجسر الذى عبرت من خلاله مصر إلى الحضارة الإنسانية بعد أن ظلت قرونًا طويلة ترسف فى أغلال الجهل والضعف والقهر.
هل نتحدث عن الرجل أم المبنى أم المعنى؟ نتحدث عنهم جميعًا، فالرجل يرتبط بالمكان، والمكان يشكل جزءًا لا يستهان به من عاطفة الرجل، وفى الشعر العربى القديم يقول الشاعر الذى شغف بجبل التوباد وارتبط به ارتباطًا إنسانيًا فريدًا: أجهشتُ لِلتوباد حين رأيته.. وكَبَرَ للرحمن حين رآنى.
وأظن أن مشاعر المستشار أحمد الخازندار كانت شبيهة بمشاعر هذا الشاعر، فقد تقلد مواقع قضائية رفيعة فى هذه المحكمة فى سنوات سابقة وارتبط بها ارتباطًا عجيبًا، فى تلك المحكمة، ذات التاريخ التى كانت تضم بين جدرانها «محكمة الاستئناف» و«محكمة النقض والإبرام» و«مكتب النائب العام»، كانت سنوات من عمر الرجل، والعمر لا يتبدد ولكنه يتردد فى الأماكن التى عشناها وأحببناها، فمنذ سنوات لا يتذكرها التاريخ شغل الخازندار موقع رئيس نيابة استئناف مصر، وكان مكتبه فى الدور الثانى قريبًا من مكتب النائب العام، ومن قبلها كان يشغل موقع «مفتش نيابات» بمحكمة استئناف مصر، وبعد أيام وشهور وأحكام واجتهادات قضائية متميزة أصبح وكيلًا لمحكمة استئناف مصر، ثم حمل أوراقه وذهب إلى محكمة استئناف الإسكندرية ليصبح رئيسًا للمحكمة، وها هو يعود مرة أخرى إلى المكان الذى شهدت جدرانه أيامه وأحكامه، هى دنيا تدور بنا ولا نديرها، ولكن يبقى الإنسان بذكرياته لا تنمحى أبدًا، بل تندمج مع المكان.
فى أغلب الظن جرى فى خيال المستشار الخازندار وهو يضع قدمه من جديد على أرض محكمة مصر، أيامه الأولى فى القضاء، لعله تذكر الأيام الأولى بعد تخرجه فى كلية الحقوق عام ١٩١٢، واليوم الذى ذهب فيه ليقدم أوراقه فى مسابقة التعيين بالنيابة العامة، ويوم أن قرأ اسمه من الناجحين فى المسابقة، ويوم أن جلس لأول مرة على مكتبه فى يناير من عام ١٩١٣ وهو «أحمد الخازندار» معاون النيابة.
لماذا لا يذكر التاريخ تاريخ أبناء مصر النجباء، هل كان الخازندار صفحة ثم طويت فلم يعد لذكرها أهمية؟!، هل كان الدم الذى سال منه ماءً لا غَناء فيه ولا طائل من ورائه؟! إذا عَنَّ لك أن تبحث عن تاريخ هذا المستشار فلن تعثر على شىء يفيدك، ولا أظنك ستعرف أنه ولد عام ١٨٨٩، أى بعد خمس سنوات من افتتاح محكمة استئناف مصر، ولن تستطيع أن تصل إلى مؤرخ كتب عنه، اللهم إلا فقط تحت عنوان «جماعة الإخوان تقتل المستشار أحمد الخازندار» وسيضيف بعضهم من عنده أن «المستشار الخازندار أصدر حكمًا مخففًا على رجلٍ شاذ اغتصب أطفالًا أبرياء، وأنه لفرط خيانته للوطن أصدر أحكامًا مشددة على شباب من الإخوان كانوا يقاومون الاحتلال الإنجليزى فى منطقة (نصف البلد) عن طريق تفجير أبواب وواجهات بعض الحانات والبارات، فنقم عليه شباب من جماعة الإخوان، فما كان منهم إلا أن قتلوه» وسيأخذ المؤرخون فى التخفيف من هذه الجريمة، وسيعتبرونها جريمة سياسية موجهة ضد أعداء الوطن، وسيلتمسون للقتلة ألف ألف عذر، أما الشهيد فقد نسيه الجميع! وسيظل تاريخه الحقيقى وسبب اغتياله بعيدًا عن كِتاب «التاريخ» فقد غابت الحقيقة عندما كَتب القاتل وسكت القتيل، غابت الحقيقة عندما أصبح التاريخ الذى بين أيدينا هو التاريخ الذى كتبه القاتل، أما أين نحن «أهل مصر» فحدث ولا حرج.
ولكن ما تاريخ هذا المستشار؟ لنا أن نبذل الجهود العلمية والتوثيقية لنعرف ما أخفاه التاريخ عنا، فإذا مضى بنا الجهد إلى غايته سنعرف أن المستشار أحمد الخازندار كان رجلًا مثقفًا وموسوعيًا، برع فى علوم القانون حتى وصل إلى درجة «الاقتدار» وهى درجة لو تعلمون عظيمة، ومع القراءة المحترفة للقانون ومدارسه، والكتابة الحاذقة المستبصرة لمفاهيمه التى يخطها بيمينه فى الأحكام القضائية، كانت القراءة المتنوعة فى كل المجالات الفكرية هى شغفه الأكبر، ومع ثقافته هذه كان متدينًا يعرف قيمة أن يحتفظ فى قلبه بتوقير التراث، وفى الوقت نفسه يدرك أن تجديد الأفهام والأفكار أمر إنسانى رشيد لا يأنف منه إلا أصحاب الجمود والتقليد، وقد قفز به الفكر كثيرًا عندما اصطحب محمد بك نور، رئيس نيابة مصر، الذى حقق عام ١٩٢٧ فى البلاغ الذى قدمه بعضهم ضد عميد الأدب العربى «طه حسين» بسبب كتابه «فى الشعر الجاهلى» وكان طه حسين قد اتبع فى هذا الكتاب أسلوبًا فلسفيًا جديدًا كانت أوروبا قد اعتمدت عليه فى نهضتها هو أسلوب «الشك إلى أن نصل لليقين»، وهو الأسلوب الذى ابتكره الفيلسوف «ديكارت» والحق أن ديكارت لم يبتكره ولكنه استمده من كتابات الفيلسوف العربى «ابن رشد».
وحين عُرضت قضية «طه حسين» على المستشار محمد نور، رئيس النيابة، كى يحقق فيها كان زميله الذى يرافقه فى نفس الحجرة هو رئيس النيابة «أحمد بك الخازندار» وقتئذ انصرف الخازندار إلى فلسفة ابن رشد والكِندى وابن خلدون، ومنها نهل الكثير وعرف أكثر، وحين حضر طه حسين لغرفة التحقيق أمام محمد بك نور كان الخازندار هو المتابع الأريب لكل ما رد به طه حسين على الاتهامات التى سيق من أجلها للتحقيق، ولأننا لا نستطيع أن نؤرخ إلا بالوثائق فإننا سنستخدم هنا أدوات الاستنباط فنقول من خلال ما وصلنا من المعاصرين للمستشار الخازندار مثل المستشار النابه القدير «مصطفى مرعى» شيخ المحامين، رحمه الله، وأحمد عادل كمال، أحد أعمدة النظام الخاص فى جماعة الإخوان، وشذرات وقعنا عليها من هنا ومن هناك أن أحمد بك الخازندار مجَّ التطرف ونقم على الإرهاب الذى من شأنه أن يقوِّض حضارات ويهدم أممًا، ولكنه فى الوقت نفسه ظل مختطًا لنفسه طريقه «العادل» فى القضاء لا يمل من الحق ولا يميل إلا مع العدل، ولا غرو فقد كان هذا الرجل، كما قلنا، مشهودًا له بالكفاءة بين المستشارين، كثير الاطلاع والتعمق فى القانون، وكانت له هيبة وحزم فى إدارة الجلسات، وكان معروفًا عنه طيلة حياته بأنه لا يخضع لأى وعد أو وعيد أو تهديد حتى ولو كلفه عمره، وقد كلفه.
ومن تصاريف القدر أن أحيلت له أمام دائرته الحازمة قضية اتُهم فيها بعض شباب من الإخوان بتفجير حوانيت فى منطقة «نصف البلد» أصيب فيها من أصيب ونجا منها من نجا، فضلًا عن تفجيرهم سينما «مترو» لأنها كانت تعرض فيلمًا إنجليزيًا شهيرًا عن الحرب العالمية اسمه «دماء على الشمس» بطولة الممثل الإنجليزى الشهير «جيمس كاجنى» ولا نعرف لماذا غضب الإخوان من هذا الفيلم لدرجة تفجير السينما «دار الخَيَالة»، ولكن يستلفت نظرنا أن الإخوان نقموا على السينما كفن من الفنون التى ترتقى بالبشر وترتفع بأخلاقهم، فكان تفجير السينمات جزءًا من مخططهم الإجرامى لإثارة الفزع على أرض مصر المحروسة، ولله فى خلقه شئون.
هل ابتعدنا عن الموضوع؟ لا أخالنى فعلت ذلك، ولكننى تحدثت عن موضوع قضية جنائية حكم «القضاء والقدر» على المستشار الخازندار أن يكون قاضيها، وقاضيها اشتهر فى أروقة العدالة بالحزم ضد المتهم الذى تنهض الأدلة على ارتكابه الجُرم، فكان ذلك مصدر قلق لتلك الجماعة التى سيطرت على عقول شبابها وحرضتهم على ارتكاب الجرائم فى حق وطنهم، إذ مع حزم وبصيرة الخازندار ماذا يفعل بالله عليك الدفاع مهما أوتى من بلاغة ودراية والاتهامات فى تلك القضية ثابتة ثبوتًا يقينيًا، بحيث لا يفلح معها إنكار، ولا يصلح معها تبرير، ويا له من يوم، ذلك الذى قال فيه «حسن البنا» خوجة الخط العربى ومرشد جماعة الإخوان لتابعه عبدالرحمن السندى، مسئول الجهاز السرى فى الجماعة: «ربنا يخلصنا من هذا الرجل، هوَ ما فيش حد قادر عليه ولا إيه»؟، هل هذا هو الحل الذى سيطر على عقل الرجل؟! التخلص من المستشار! سمع السندى الرجل الحديدى بالجماعة والمسئول عن السلاح والتدريب والقتل والاغتيال هذا الرجاء من مرشده، وعرف من تلك العبارة أن البنا يصدر له أمرًا لا هوادة فيه بقتل المستشار قبل أن يبدأ فى نظر القضية حتى يُحال المتهمون إلى دائرة أخرى، ولكن السندى آثر فى بداية الأمر أن يرسل خطابات فيها تهديد للقاضى العنيد، ولكن هل ينفع التهديد مع الرجال!.
كان ذلك قبل أن يبدأ المستشار الخازندار فى نظر القضية المتهم فيها هؤلاء الشباب من الإخوان، وكان البنا قد عرف من المحامى الشاب وقتها فتحى رضوان أنه ترافع عن بعض شباب ينتمون إلى جمعية مصر الفتاة، كانوا قد اتهموا فى قضايا تخريب بعض المحال فى الإسكندرية، على ظن من أنها مملوكة لـ«خواجات» يونانيين بينهم وبين الإنجليز صلات قوية، وكانت التهمة ثابتة فأصدر ضدهم الخازندار أحكامًا بالسجن، وحين قام البنا بتوكيل فتحى رضوان فى قضية شباب الإخوان الذين فجروا سينما «مترو» التى لم تكن المرافعات قد بدأت فيها بعد، قال له فتحى رضوان: موقف القضية غاية فى الصعوبة والقاضى لا يأخذ أبدًا بالظروف المخففة، وعلى الله التكلان.
يقول التاريخ المزيف الذى كتبه الإخوان إن قتل الخازندار حدث بعد أن أصدر حكمًا ضد شباب الجماعة، وهذا غير صحيح، فإذا كان الحكم قد صدر فما الحاجة إلى قتل المستشار؟ أليس لهم بطبيعة الحال الطعن على الحكم إن كان قد صدر أمام محكمة النقض والإبرام؟! ولكن القتل كان للمنع، لمجرد أنهم توقعوا خطرًا سيقع على شبابهم بحكم قضائى محتمل الصدور ضدهم، وتوقعوا من الحكم المرتقب إدانة للإخوان ولحسن البنا الذى يقود شبابه للتفجير العشوائى وإضرام الحرائق، لذلك كان الذى حدث هو أنهم قتلوا الخازندار غيلة وهو متوجه للمحكمة يحمل معه فى حقيبته أوراق القضية التى سهر على دراستها والخاصة بتفجير سينما «مترو»، وكان المطلوب أن يُحال بين الرجل وبين هذه القضية ولو بالقتل، وليس الأمر بمستغرب عن أفكار الجماعة التى كان يبثها فيهم شيخهم ومرشدهم الخوجة حسن أفندى البنا، فالمحاكم، فى معتقده، تحكم بغير ما أنزل الله، والقوانين فى نظره احتكام للطاغوت، «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» وقتل الكافر مباح لمنعه من ظلم المسلم القائم على تنفيذ شريعة الله!.. ولكن كيف وقع الحادث؟ هذا ما سنعرفه فى الحلقة المقبلة إن شاء الله تعالى.