حين يفقد المرء هُويته يتحول إلى كيان مضطرب ممسوخ، ومغترب عن ذاته، فماذا لو فقدت “أمة” هُويتها؟!
حالة من الانسلاخ والانفصال والاضطراب تسيطر على فضاءات تلك المجموعة القصصية (إنوما إليش) شفة على الأرض والأخرى في السماء، الصادرة عن دار غراب للنشر، والمقسمة إلى ثلاثة أقسام مائزة هي:
(عوالم، وكنعان، وبابل)، حيث وضعت فيها (منة الله) خلاصة بوحها ووجعها القومي على حضارة أمتها العربية المنتهكة والمتآكلة حد الاندثار إثر جرائم التخريب التي يمارسها المغرضون في أراضي الأمة العربية يوماً بعد يوم، في أشدّ صور الإرهاب الحضاري وحشية وبشاعة.
وقد تخيرت أكثر تلك النماذج وجعاً حين تمحورت أفكار مجموعتها حول حضارتي (بابل، وآشور) في العراق، و حضارة منطقة “كنعان” التي تشمل (سوريا، والأردن، وفلسطين، ولبنان).
إن الأمم باقية ببقاء ما تُخلفه بعدها من إرث تراثي، وحضاري، وعلمي؛ فإذا ما أردت أن تمحو أمة أو تزيف تاريخها فما عليك سوى القيام بمحو آثارها في كل مجال، وهذا ما رصدته الكاتبة بوعي وإخلاص في مؤلفها متكئة في ذلك على الأسطورة للمرة الثانية على التوالي بعد مجموعتها (مخدع)، وهذا يضعنا صوب تساؤل هام: لماذا الأسطورة؟!
ولقد أجاب (رولان بارت) على سؤالنا هذا حين قال: “إن من وظائف الأسطورة في العمل الأدبي إضفاء تبرير قصدي على تصورات تاريخية بعينها”. وهذا ما حاولت (منة الله) أن ترصده في كتابها: تفسير وتبرير أن المقصود والهدف خلف مجموعة جرائم التخريب تلك هو تدليس التاريخ وتزيفه، بكيفية أطلقت من خلالها ما نسميه (بالخيال الأسطوري).
إن ما تعاني منه الكاتبة هنا وتحاول صياغته عبارة عن (توبوفيليا المجد)، بتقديمها لمجموعة من البكائيات القصصية التي تقوم فيها بالعديد من الإسقاطات الأسطورية على الأحداث الواقعية، فنمط الأسطورة من شأنه أن يفجر طاقة التقنيات الفنية في العمل الأدبي كـ: (الرمز، والمعادل الموضوعي، والعجائبية)، وينعش طاقات القارئ عند تلقيه للعمل فيقوم ومن عتبة الهوامش (الغلاف، والعنوان، والإهداء، والاقتباسات) بالتحليل، والتأويل، والذهاب إلى ميتاسرد النص وفضاءاته الرحيبة، فيعيد انتاج النص بمفهوم ووعي جديدين.
لم يكن انتقاء الكاتبة لأساطير وليجيندات تلك الثقافات بعينها انتقاءً عشوائياً بل كان مقصوداً ومعنياً بذاته، لما تحمله أسطورة الخلق الأولى، وملحمة جلجاميش، وغيرهما… من ثراء في الموتيفات أو الشخوص، وتميز الأساطير عامة (بالزمكانية)، وبما هي متشبعة به من محمولات شتى (عقائدية، وسياسية، وفكرية، واجتماعية…)، وأحداث شديدة الشبه بالعصر الآني، كأنما يعيد الخيال تشكيل نفسه في ثوب جديد هو (ثوب الواقع) ليكون أكثر قتامة وبشاعة وسوداوية وسطوة على البشر.
وما يعنيني في مجموعة (إنوما إليش) على وجه الخصوص هو بضعة محاور للنهج الأسطوري في الأدب وتحديداً محوري: (الخيال الأسطوري، والوعي الأسطوري).
حيث يلعب (الخيال الأسطوري) دوراً هاماً في تجسيد الموضوع، و المشكلات في ذهن المتلقي كما يراها الكاتب ويريد لها أن تصل، ويلعب (وعي الكاتبة الأسطوري) دوراً رئيساً في نقل ذلك الخيال بكيفية نافعة للعمل ولقد امتلكت (منة الله) وعياً مائزاً خوًل لها أن تقوم بعملية إزاحة الأسطورة للواقع لتعبر عن مشكلات معاصرة نعايشها الآن في وطننا العربي، وامتازت تلك الإزاحات بالجمال، والدقة، والوضوح، لتثري بذلك عقلية القارئ بمجموعة من الأساطير التي ربما لم يطلع عليها من قبل، وتنقل له من خلالها القصة والمواقف والفعل ورد الفعل ومآلات كل ذلك سلباً وإيجاباً.
وتمنح (منة الله) بالأسطورة لقلمها ثيمة يتمايز بها عن سائر الأقلام، وبها يعرف، كما أنها تنتهج بنهجها هذا احد اتجاهات الحداثة في الكتابات المعاصرة.
ولقد حققت من خلال هذا بالإضافة إلى لغة المجموعة واقتباساتها المتنوعة هدفي (المتعة، والفائدة) كما أزاحت عبأ متراكماً من الأفكار، والأوجاع كان يثقل كاهلها، فحلت وثاق يدها، وكمامة فمها حين انتهت من كتابة (إنوما إليش).