المجموعة القصصية ” الكيس الأسود” للصحفي والقاص حسام أبو العلا بداية من غلافها حتى آخرها، وما تحتويه من قصص قد تبنت فى نظرى التعبير عن العديد من القضايا الاجتماعية والانسانية ، والتى استطاع الكاتب أن يصوغها فى قالب من السرد الواقعى عبر بداخله عن معاناة الإنسان المعاصر اجتماعيا واقتصاديا ، ونفسيا ، وإنسانيا بشكل عام.
لمس الكاتب العديد من آلامه وشجونه ، غير أننا أيضا نجده فى العديد من المواضع يقدم حلولا حتى وإن كان ذلك ينساب انسيابا سرديا غير متعمدا ، ولكنها تعبر عن وجهات نظر الكاتب، وكيفية ترويضه لمفرداته السردية التى تنتهى بين يدي قرائه بحلول واقعية لقصص مشابهه على أرض الواقع لا الخيال ،ولعل ذلك هو ما يميز هذه المجموعة التى نحن بصددها.
وإذا نظرنا إلى توظيف الكاتب لمفردات السرد للتعبير عن قصصه، وما تحتويه من تجارب إنسانية حياتية سنجد ذلك واضحا منذ اختيار الغلاف ، والذى عبر بكل وضوح عن معاناة تلك الطبقة التى لا تجد قوت يومها، ولكنها تتصدى للحياة بكل الحيل لحماية الأبناء ، وهى بائعة الخضار ومن أمامها ذلك الصبى الذى يمسك الكيس الأسود لنقف منذ الوهلة الأولى عند العنوان المراوغ والذى بطبيعته مفتاح الولوج داخل هذا العمل ، فلما بائعة الخضار ؟ ولما هذه السيدة المسنة ؟ وما هو الكيس الأسود ؟ وماذا به ؟ ولماذا يحمل اللون الأسود؟
وقد اختار الكاتب عنوان مجموعته متوافقا مع عنوان قصته الأولى ، وكعادة العناوين الرئيسة توقفنا على العديد من الوظائف الاغرائية والاخبارية التى تثير قارئها للولوج داخل النص السردى ليجد قارؤه مبتغاه ؛ فيقول فى قصته الأولى التى جاءت بعنوان ( الكيس الأسود) ( على مقربة من بيتنا كانت تجلس بجسدها الضخم ترتدى ثوبا أسود فضفاضا، وبجوارها أقفاص من الخضراوات والفاكهة كنت أذهب مع أمى وهى تبتاع منها ما تحتاجه لتحضير الغداء وكانت تناديها بـ ” أم على” ولكنى لم ألتق (على )أو أرى أحدا من أبنائها يجلس بجوارها ، وكنت ألمح أمى تعطيها كيسا أسود محكم الغلق وكانت تتعمد أن تواريه كأنها لا تريد أن يراها أحد ٌ).
وقد وجد القارئ ضالته والإجابة عن تساؤلاته بعرض معاناة تلك السيدة ( أم على ) بائعة الخضار ، وعلاقتها بأم محمود صاحبة ( الكيس الأسود) ،والذى حمل بداخله الأمل فى استكمال الحياة بآلامها، والذى أعانها وأولادها على صعابها وها هو محمود يحمل هذا الكيس بدلا عن والدته ليستكمل المسيرة حتى الوصول إلى بر الأمان لتموت بائعة الخضار وتموت صاحبة الكيس ، ويبقى الكيس رمزا للتكافل ، رمزا للأمل والحياة لكل من أغلقت أمامهم أبواب الحياة ، وعاشوا صعابها ، وها هو نتاج هذا التكافل الذى تمثل فى الأبناء الذين يرثون عادات الآباء وصفاتهم إن كانت خيرا فخير ،وإن كانت شرا فشر ، وهاهما محمود وعلى يسيران على دروب أمهما فى القدرة على العطاء والتضحية وكذلك الوفاء ،والانتماء يقول محمود (نشأت صداقة قوية بينى وعلى ، الذى بدأ يتحمل مسئولية تربية أشقائه الصغار ، وطالبته بأن يساعدنى فى تنفيذ وصية أمى بقبول ( الكيس الأسود) لكنه اعتذر بأدب جم ، وأكد أن دخل بيع الخضر والفاكهة يكفيهم.
رجوته ألا يتردد فى طلب أية مساعدة ، خاصة أننى كنت تخرجت فى الجامعة وعملت فى بنك استثمارى براتب كبير وتركت بيت العائلة وانتقلت لشقة أخرى فى إحدى المدن الجديدة على أطراف العاصمة .
كنت سعيدا أثناء زياراتى لمنزل عائلتى وأنا أرى (على ) يطور تجارة أمه، فقد استأجر محلا كبيرا وكان يقوم بأعمال التشطيب ،
وعرضت عليه المساهمة بأى مبلغ ، رفض لكنه أصر أن أحضر حفل الافتتاح فوعدته بأن أكون أول الحاضرين …
فى يوم الافتتاح لمحت عيناى لوحة كبيرة تزين مدخل المحل كتب عليها ( تجارة الوفاء … لام محمود وأم على ) ..احتضنت على وانخرطنا فى البكاء……… .
ويشير اللون الأسود إلى العتمة والضبابية ،وعدم الوضوح بينما تأتى المفارقة مما يرمز له الكيس الأسود من فتح نوافذ مشرقة أمام من أغلقت أبواب الدنيا أمامهم .
وقد استكمل الكاتب رؤيته لتلك المجموعة ، والتى يعبر فيها عن معاناة الإنسان بكافة مستوياتها من خلال عناوين قصصه التى تكونت كلها إما من أسماء مفردة مثل ( جحود ، الكهلة ، الفراق ، اغتصاب ، وإما من جمل اسمية تكونت من اسمين مثل ( الكيس الأسود ، شقيقى القبطى ، سحر العيون ، الابتسامة المفقودة ، عودة مخيبة ).
جاءت عناوين المجموعة مكثفة مقتضبة خالية من الزمن ، خالية من الروح ، خالية من الحياة.
كل منها يعبر عن معاناة إنسانية حياتية نعاصرها ،ونعايشها لنجد أحداثها وشخصياتها تلامسنا وتلامس واقعنا .
فيجيد الكاتب فى صنع حبكته فسرعان ما نصل لحل هذه الحبكة بحلول متوقعة وفى بعض الأحيان نقف على تلك النهايات غير المتوقعة لحل الحبكة غير أنها تصل بالقارئ إلى الشعور بنشوة النهاية لوجود الحل .
وقد سارت هذه المجموعة على خط درامى واحد عبر فيه القاص عن جوهر رؤيته ممزجا ذلك بخبراته الحياتية ،ومبادئه ومفاهيمه المتعلقة بالحياة وكيفية التصدى لها.
وقد اعتمدت المجموعة بداخلها علي الحدث الواحد الذى يستطيع الكاتب من خلاله فى كل قصة أن يحدد له زمانا ومكانا وفضاء ً سرديا لتنصهر بداخله تلك العلاقات الإنسانية التى تفرز مجموعة من المشكلات فاستطاع أن يصب إبداعه فى هدف واحد فى كل قصة دون أن يبتعد عنه متوجها مباشرة إلى هذا الهدف من خلال الكثافة السردية فتتحد عناصر السرد فى كل قصة مرتبطة ارتباطا يجعل كل قصة ذات دلالة محددة وهدف واحد .
وإذا كانت الفكرة تقوم على تجربة شخصية شعورية للكاتب أو القاص فى هذه الحياة فإن هذه الفكرة تحتاج إلى الأبطال ( الشخصيات) ،وهم الذين تدور حولهم الأحداث وقد استطاع الكاتب فى المجموعة تكثيف الأدوار التى تقوم بها شخصياته فنجد الشخصية المحورية التى تدور حولها القصة، ونجد الشخصية الثانوية التى تسهم بشكل أو بآخر فى مسار الأحداث وهى الشخصية المساعدة.
فالكاتب فى أغلب قصص المجموعة يقوم بدور الشخصية المحورية ، ونقع على ذلك فى ( الكيس الأسود ، وجحود ،والكهلة، ورحلة العمر وسحر العيون وشقيقي القبطى وغيرها، فلا نجد سوى قصة عودة مخيبة وهى الوحيدة فى المجموعة التى لم يقم فيها الكاتب بدور الراوى ، وكأن الكاتب ينقل إلينا خلاصة تجارب حياتية ومشكلات واقعية برؤيته الفكرية الابداعية الخاصة التى صاغها فى بوتقة من الشخصيات والأحداث والحبكة والسرد الحكائى , وغيرها من عناصر فنية امتازت بها مجموعته.
كما نجده فى بعض القصص لايسمى شخصياته المحورية مثلما نجده فى قصة ( ليلة العيد)فلم يسم صاحب القصة كما نجده فى قصته( الغفران) لم يسم أى من شخصياته بل اكتفى بالأم، والأب والابن والفتاه وغيرها . واستخدامهم كرموز دون تسمية أعانته على ابراز الحدث وتكثيفه منذ الوهلة الأولى فاهتم بالمدلول الذى تقدمه الشخصية فى التجربة السردية معبرا عن مكنون إجتماعى واقعى نعايشه ونعاصره ونعانيه.
وإذا كانت كل قصه من أقصوصات المجموعة امتازت بالحدث السردى الواحد والذى بدوره قام فى فضاء سردى خاص به وشخصيات محورية وثانوية صنعوا هذا الحدث ومثلوه فإننا نلمح تلك التقنية التى استخدمها الكاتب ربما دون أن يشعر وهى ( إعادة تدوير الحكاية ) ، ونقصد هنا بإعادة تدوير الحكاية هو إعادة الحدث السردى مع اختلاف الشخصيات فى القصة الواحدة.
مثال على ذلك فى قصة ( الكهلة ) هذا الأب القاسى مع ابنه ،وزوجته التى ماتت فتزوج من أخرى ،وتخلى عن ابنه لتقوم جدته برعايته ، تلك الجدة التى كشفت الأحداث أنها زوجة أب ، وليست أم حقيقية مع إبراز الكاتب الفارق بين شخصيتى زوجة الأب الأولى ، وهى التى دفعت الأب للتخلى عن ابنه ثم تخلت عن الزوج فى النهاية والجدة رغم أنها زوجة الأب و لكنها شملت بحنانها الأب وولده .
كما نقع أيضا على إعادة تدوير الحكاية فى أقصوصة ( دنيا) حيث نجد وحدة المعاناة فى تلك الأقصوصة التى دارت حول هذا المرض اللعين ( السرطان) الذى اختطف الزوجة تاركة الابنة ،والزوج وتلك المحبوبة التى أحبها الزوج أيضا التى اختطفها نفس المرض تاركة ابنها ليتولى البطل تربيته عوضا عن ابنته التى تزوجت ، وكأن عقارب الساعة تدور من جديد فى نفس الاتجاه مكملة دورة واحدة,مخلفة تجربة شعورية أعاد الكاتب تدويرها.
يقول الراوى فى أقصوصة (دنيا) عندما ماتت زوجته بالسرطان ،ورحلت ابنته بعد أن تزوجت ( كانت لحظة توديع ابنتى وهى فى طريقها للسفر لا تقل قسوة عن لحظة وفاة أمها …عدت إلى البيت وجلست أتأمل الصور التى تجمعنى بالراحلتين حتى تلقيت اتصالا من ابنتى تطمأنني على وصولها).
ثم يعود فى نهاية الأقصوصة بعد وفاة دنيا محبوبته بنفس هذا المرض اللعين تاركة ابنها معه بعد أن شعر بالوحدة من فقدان كل أحبائه يقول:
( انصرف الأحبة وودعوا الحياة ، لكنهم لم يرحلوا من حنايا القلوب …وأصبحت وابن (دنيا) نقضى الليل البارد بين دفء الصور التى تحمل بين ثناياها وفى تفاصيلها أجمل وأتعس ذكريات العمر) فأعاد هنا الكاتب تدوير الحدث بشخصيات أخرى .
كما نجد أيضا أقصوصة (رحلة العمر) تلك الرحلة التى عبرت عن معاناة البطلة التى عانت فى بيت والدها من أب قاس وأم لا تملك القرار ،فتزوجت ومات عنها زوجها وترك لها ثلاثة أبناء عانت فى هذا المجتمع من أجل تربيتهم ،وتعرضت للكثير من المساومات التى صمدت فى التصدى لها ، والعبور بأبنائها إلى بر الأمان ليعيد الكاتب الحدث ، فيموت الابن بدلا من الزوج تاركا لها الأحفاد ،وتستكمل تلك الأم أى الجدة رحلة العمر، وتربية الأحفاد ورعايتهم ،وتحمل مسئوليتهم فتقول الأم أى الجدة ( وكأن عقارب الزمن ترجع ثلاثين عاما عندما رزقنى الله بأبيهما).
وأعاد الكاتب تدوير الحدث أيضا فى أقصوصته ( الغفران) فما حدث مع الأم وزواجها من زوج غير متكافئ معها اجتماعيا هو نفس مع ما حدث مع الابن الذى أحب فتاة ابنة موظف بسيط ، وتكرار نفس التجربة ولكن بشخصيات أخرى .
لقد استطاع الكاتب فى مجموعة ( الكيس الأسود) أن يلمس العديد من التجارب الانسانية والحياتية التى عبر فيها من خلال أحداثه ، وشخصياته فى كل أقصوصة عن معاناة ، وآلام الانسان فى هذه الحياة فوضع نصب أعيننا خلاصة تجاربه وخبرته من خلال تجارب نعايشها، ونعاصرها ، ونشاهدها يوميا ، قدم هذه التجارب فى قالب من السرد الفنى الذى امتاز بكثافة المتن وتحديد الأدوار، وعلاقتها الفنية بالحادثة ،والتى أصاب بها الهدف المحدد والذى تمثل فى رؤيته الفكرية التى نقلها إلى القارئ فى مجموعة ( الكيس الأسود).