سيتحير المطالع لعنوان تلك الرواية تحيرًا كبيرًا حين يفكّر هل هو (مولانا الشيخ جوّاب) الذي يجوب البلاد أم أنه (مولانا الشيخ جَواب) الذي يملك الإجابة عن الأسئلة الهامة والهائلة بداخل العمل..! وعلى الرغم من أن الكاتب قد حسم الأمر بأنه الشيخ الذي يملك الإجابات إلا أنهما وبعد القراءة صحيحا التأويل حيث تتحول الإجابات في النهاية إلى مولى، ويجوب المولى من ضريح إلى ضريح فيتخذ لنفسه في عموم الأمر ألف شكل واسم وصورة وقرية وبلد.
إن سببًا رئيسًا من أسباب نجاح هذه الرواية وغيرها، تناولها لقضايا (الروح) وهى جزء مهم من علاقة الإنسان بالكون كله، كما أن الكتابة عن تجربة التصوف تتيح حرية لا حدود لها، لارتباطها بعالم الرؤى والتجليات والإشراقات التي تتحرر من كل قيد.
ينتهج الروائي (يسري أبو القاسم) هنا عدة أساليب فكرية، وعلمية، وفلسفية، ودينية بغرض استكشاف الأفكار المعقدة والوصول إلى الحقيقة ، وكشف الافتراضات و تحليل المفاهيم للتمييز بين ما نعرفه وما لا نعرفه عن طريق الاستدلال العلمي والمنطقي وإعمال العقل. ومن أمثلة تلك الأساليب استخدامه لأسلوب (الاستجواب السقراطي) في مناقشة المذاهب بعضها البعض، وميزة ذلك الأسلوب أن الاستجواب السقراطي منهجي ومنضبط وعميق وعادة ما يركز على المفاهيم الأساسية.
كما أن الكاتب واسع الثقافة استعان بالتنظير على غرار الدعاة أمثال الشيخ (ديدات) ليقابل الحجة بالحجة فيضحدها، وسيلمس القارئ حتمًا مدى التماهي بين أسلوب كتابة هذه الرواية الثرية وأسلوب العالم الدكتور (مصطفى محمود) في كتابه الشهير (حوار مع صديقي الملحد)، وكيف يتناص معه (يسري أبو القاسم) فكريًا وأسلوبيًا.
تبدأ الرواية بمشهد محاكمة يترأسها (عطوة) أحد شيوخ الطرق الصوفية بقرية البطل الرئيس الطبيب (محمد) ابن القرية المحبوب وابن كبرائها الذي تقام له محاكمة أشبه ما تكون بمحاكمة (جاليليو) أو محاكمة (الحلاج) وذلك بعدما حمل معوله واتجه به ليهدم ضريح ولي القرية (الشيخ جواب)، يقف (سليم) المحامي الذي يمثل الادعاء ضده بطريقة هزلية ويقارن بين البطل وبين شخصية الطبيب إسماعيل في رواية (قنديل أم هاشم) الذي حطم قنديل السيدة زينب وكاد الدراويش هناك أن يفتكوا به. ويبدو أن أهل القرية قد جمعوا أمرهم على ضرورة عقاب ذلك الطبيب الذي جن جنونه، فيقترحون جلده بالسياط لكن رجلاً يظهر من العدم ويبلغهم أن الشيخ جواب زاره في المنام وأمره بأن ينفى الطبيب الآبق. يقبل الجميع (عطوة، سليم، أهل القرية، العمدة، وعائلة الطبيب) الذي يصرخ ليقول أنه هو الشيخ جواب!
تبدأ عجلة السرد بالدوران للخلف بعودة البطل إلى القاهرة منفيًا، خلال رحلته التي ركب فيها القطار بدأ يتذكر كيف بدأ كل شئ، وأول ما خطر بباله كان ذلك شيخ العباءة الخضراء الذي اعتاد أن يظهر له ، ويختفي من حين لآخر.
يتخلخل الزمن بتقنية الفلاش باك ويتغير كل شئ، تتلاشى صورة قطار النفي لتحل محلها صورة زمان ومكان مختلفين في السابعة صباحا بالسيدة زينب حيث
ينزل الطبيب متجها إلى عمله بالمستشفى ويمر كعادته على مقهى المعلم (شيبة) ويستمع هناك إلى أنشودة ((والله ما طلعت شمس ولا غربت)) للشيخ ياسين التهامي وقد كان قد استيقظ قبل هذا على صوت منولوج إسماعيل ياسين:
” كلنا عاوزين سعادة
بس ايه هيه سعادة
ولا إيه معنى السعادة
قولي يا صاحب السعادة؟
قولي قولي ..”
وهو أول تلميح من الكاتب من دون تصريح على تلك المقابلة الضدية داخل البطل بين (النفس) الباحثة عن السعادة و(الروح) الباحثة عن الله. فالنفس هي ذات البطل، أو هي المشخصات التي تنبئ عن ذاته، أما الروح فهي جسماً خفيفاً وعلويّاً، وعلى الرّغم من ماهيّة الروح وغموضها إلّا أنّه من الممكن أن تظهر آثارها على الجسد؛ فالعقل والفقه والإبصار والحركات اللا إرادية، هذه كلّها لا تتحقّق إلّا بالرّوح، فما إن نزعت روح الإنسان منه بطل كلّ ذلك وفسد.
ويبدأ الكاتب ممارسة فنون المناظرة منذ الفصول الأولى لروايته بين شاب (سلفي) الفكر والهيئة، والمعلم شيبة (الصوفي) حول (الحلاج) الذي دعاه السلفي بالزنديق فتصدى له الصوفي الذي يطلق على الحلاج لقب الولي تلك المناظرة التي تنتهي بتغيير المعلم شيبة لافتة مقهاه ليضع عليها اسم (مولانا الحلاج)، وفي فصول متقدمة من الرواية يعود (أبو القاسم) لفن التنظير الذي يجيده ولكن هذه المرة بين (سني) و (شيعي) وفيها يضحد السني مذهب الشيعة بآيات القرآن الكريم والحجة، ويطلق تحذيرًا يبدو في ظاهره خاصًا أما في باطنه فهو عام ومطلق بعدم ظهور ذلك المذهب في أراضينا.
ينتقل البطل بين الواقع فيستعرض لنا صراع الطبقات والتهافت عن الحياة، والغيرة، والشهوة، ثم يخوض في عوالم ما وراء الواقع فيرتقي ويرتفع ويتخلى ويذوب. سنجد بداخل كل الشخوص قطبي الخير والشر متلازمين، ولكن الذي يرجح الكفة هو انجذاب كل شخص للقطب الذي يشاء.
تبدأ الظواهر الغريبة تحوم حول (محمد) وينفتح عالم الأمارات والعلامات باتصال هاتفي من اخته لتنبأه برؤياها فتقول: “رأيتك في التشهد من الصلاة تقرأ القرآن والآيات تلف من حولك، كما رأيت نورا يخرج من بين أصابعك” لتكون تلك الرؤيا معبره لعالم البحث عن ذاته والحقيقة حيث يتجه إلى مسجد السيدة نفيسة وتظهر أولى أمارات التأويل حيث يُطعم فيه عن جوع من دون أن يسألهم طعامًا، ويدعوه أحد المجاذيب بالولي ويطلب المدد، ثم يظهر له صاحب العباءة الخضراء للمرة الأولى ومن ثم تتوالى الكرامات برؤاه التي تتحقق الواحدة تلو الأخرى وظهور لفظ الجلالة بكفه، وقدراته التي تزداد فينقذ طفلاً من حريق، وامرأة من موت محقق. تستشعر (النفس) تعالي قوة (الروح) وانجذاب البطل لطريقها لذا تدفع به عكس الاتجاه ؛فيلتجئ إلى مجاراة أصدقائه (أمجد)، و(حلمي) المخرج، ويلبي نداءات (النفس)؛ فيستجيب لذلك الفكر الجديد الذي يجعل العقل هواء وهنا تتجلى منصة مائزة من منصات (التناص) وهي (تناص معارضة) مع قصة الصحبة بين موسى والخضر عليهما السلام لمدة ثلاثة أيام ولكن ليس للحصول على العلم بل للتخلص منه في ملهى ليلى وهناك يظهر الشيخ للمرة الثانية ليذكره بالطريق ويتأسف من حاله.
في هذه الأثناء يظهر (حسين) ابن القرية و أمه (الست شريفة) وقصتها مع شيخ البلد التي جعلت منها اسمًا على مسمى، وتبدأ شخصية الحبيبة الولية (علياء) في الظهور بعدما طرح البطل عن نفسه الحبيبة الدنيوية (روناء)، لتحل محلها (علياء) التي أصبح يراها في ضريح (الشاذلي) وتتزامن معها في الظهور (صوفيا) الباحثة العالمة وهكذا يجتمع الصنوان في فؤاده، ويكتمل شقي المحبة المثلى بالولية والعالمة ، أمارات الإيمان والعلم وكفتي الميزان التي لا يرجح من دون إحداهما.
يمرر (أبو القاسم) خلال حكاياه مجموعة من المعلومات حول (ابن الفارض)، (الرفاعي)، و(الشاذلي) مؤشرًا لمرور البطل بكل هذه المراحل من دون اعتناق حتى يقرر بناء (الخلوة) التي يشرح من خلالها سرديًا كيف تولد الخرافة وتنتقل بالحكايا كالنار في الهشيم، وماهو ظاهر الأمر وباطنه في مسائل التبرك والالتجاء إلى الأولياء، فيجعل من (شرفة) الخلوة مصدرًا للمشاهدة، ومن (الباب) مخرجًا ومدخلاً للشخوص وممرًا للأحداث التي تتحول فيها خلوة الطبيب الحائر إلى كعبة للمعوزين وذوي الحاجات حتى أن يقول (عطوة) قال عنها حين علم برغبة الطبيب في هدمها: ماكنت أتخيل أن أبرهة سيعود؟
يستعرض الكاتب مجموعة من الحاجات والمعضلات التي تجعل الناس يلوذون بالأولياء من خلال صندوق (الجوابات) الذي اشتق منه اسم الشيخ جواب، فنرى
كيف يبحث العمدة عن السلطة، والمظلومة عن الخلاص، ومشكلات النساء في القرية على اختلافها، وكيف يستخدم الطبيب عقله في حلها وتغريه اللعبة وتمنح لحارس السوء (سعفان) أن يغذي الفكرة ويأصل لها طمعًا في الهبات والنذور والعطايا، مؤشرًا به إلى بطانة السوء لكل صاحب سلطة.
يخبر (أبو القاسم) قارئ روايته بأن السر وقوة التأثير ليست في الضريح بل في العقل وفي القلب وفي الروح السامية، ويقر بوجود أولياء وتخفيهم عن الناظرين؛ لفرط التواكل في أمة لابد لها أن تكون متوكلة فلا علم بدون إيمان ولا إيمان بدون علم ، ويؤكد على خرافة الصدفة وحقيقة القدر .
يتكئ الكاتب على تقنية (التدوير) في نهاية الرواية ؛ فيعود للمحاكمة، وللقطار، ولمنولوج السعادة وكأن كل شئ يعيد نفسه وكأن معاناة الإنسان في البحث عن الحقيقة ستظل معاناة سيزيفية مكرورة.
اعتمدت لغة الرواية الجزلة على استلهامات ومفردات التناص قرآني ، ومجموعة الاقتباسات و التضمينات المائزة للأشعار الصوفية، و الأوراد الشاذلية، ومقاطع من كتب، وأمثال شعبية مثل (تحت القبة شيخ)، مصاحبة للأغنيات والمنولوجات. مما أثرى العمل ومنحه جوًا من المتعة القرائية.
وفي النهاية نستطيع أن نقول أن رواية (مولانا الشيخ جواب) رواية كروية مراوغة، تؤسس لحقائق روحية بواسطة مناهج عقلية وفلسفية، سيكتشف القارئ
في آخر فصولها أن أطروحاتها أعمق وأكبر من فكرة التصوف أو مناقشة حالة التفسخ بين النفس والروح، وأنها عبارة عن مناظرة كبيرة بين قضايا ومذاهب واتجاهات، ومبارزة عقلية مع الأفكار الإلحادية. رواية مفعمة بمجموعة من الأطروحات الإيمانية، والعقائدية، والوجودية المهمة. تنطوى على جوانب عجائبية بسبرها أغوار عالم الكرامات والماورائيات. ولا يشوبها سوى كون الحوار أحيانًا قد استعلى عند بعض الشخصيات فصار فصيحًا بشكل مبالغ فيه، أو كانت تختلط فيه العامية بالفصحى من دون مبرر أحيانًا أخرى.