إن “الأمن القومي” هو مصطلح فضفاض في الشرق الأوسط المتحرك، فمن الصعوبة تحديد تعريف لعبارة اختلف عليها العسكريون والأمنيون والسياسيون، كلٌ من منظاره، في بيئة شديدة التعقيدات والتغيّرات، كما هو الحال في منطقتنا.
هذا الواقع نفسه يفسّر نجاح سياسات دول، كسلطنة عُمان وتركيا، حين كانت ترفع شعار “صفر مشاكل” في سياستها الخارجية، في التحول إلى نقاط جذب إقليمية ودولية يحتاجها جميع اللاعبين في نهاية المطاف، لوصل ما قطعته الصراعات.
ويُعدّ الاقتصاد أحد أهم عوامل قوة الأمن القومي، إذ إنّ من شأنه توجيه خطط الحكومة والتأثير في سياساتها الداخلية والخارجية، ولكن ولي العهد محمد بن سلمان دفع بالعامل العسكري إلى صدارة قائمة الأمن القومي السعودي، عبر حرب على اليمن، وحروب بالوكالة في سوريا، وحتى ليبيا، ما أدى إلى خلل جوهري تحاول الرياض معالجته، عبر خفض الإنفاق العسكري من دون طائل مع استمرار الحروب والنزاعات.
لتقريب هذه الفكرة، يمكن الاستناد إلى تجربة باكستان في حيازة السلاح النووي، حيث أدى سعي إسلام أباد التاريخي لهذا السلاح، ودخولها في سباق مع الهند، إلى إضعاف الدولة ومعاناتها المستمرة، لكونها مضطرة إلى دفع الكثير من الأثمان السياسية والاقتصادية، بعدما باتت رهينة السعي للحفاظ على هذه القوة التي قد لا تستخدمها مطلقاً!
في النموذج السعودي، تحتل المملكة المركز الأول عالمياً لناحية حجم الإنفاق العسكري قياساً إلى الناتج القومي. ورغم ذلك، فإن كل صفقات السلاح لم تصنع سلاماً للدولة التي كان باستطاعتها أن تكون محل إجماع الشعوب العربية لو سلكت منحى أقلّ عدائية، بل إنّ استحضار فزّاعة التهديدات العسكرية، غير المبررة في كثير من الأحيان، كما هو الحال إزاء اليمن وحتى إيران، يجعل من الاقتصاد السعودي أسيراً لنظرية أمنها القومي.
ولا يقتصر خطر هذا المنحى على الاقتصاد فقط، بل يتعدّاه إلى جميع العوامل التي اتفق المنظّرون، على اختلاف مدارسهم، على اعتبارها عناصر الأمن القومي.
1- القوة العسكرية: يتّبع محمد بن سلمان نظرية تقليدية لم تعد ذات جدوى في العصر الحديث، ومفادها أن القوة العسكرية تزيد من الأمن القومي. وعلى الرغم من أن القوة العسكرية عنصر مهم في نظرية الأمن القومي، لكن وزنها تراجع لصالح التجارة والبحث العلمي (ومن ضمنه التكنولوجيا) والسياسة الخارجية.
ولعلّ أبرز نموذج حديث على هذا التحول، ما تتبعه الصين في صعودها العالمي، بل إن الولايات المتحدة الأميركية نفسها باتت تبحث عن التقليل من القوة العسكرية التقليدية لصالح خيارات أخرى توفر عليها الموارد المالية والبشرية.
2- التهديدات الخارجية: إن مراجعة التحول السعودي إزاء سوريا وقطر وتركيا ولبنان واليمن تكاد تكون غير قابلة للفهم على مستوى المصلحة الحقيقية للمملكة، وخصوصاً إذا ما استرجعنا الحقبة الزمنية التي كانت علاقة الرياض فيها مع العديد من هذه الأطراف تنعم بالسلم والتعاون.
بلغ هذا التحول أوجه مع سيطرة محمد بن سلمان على أركان الحكم، وقراره التحالف مع “إسرائيل”، وتعزيز الحلف مع الولايات المتحدة إلى مستوى غير مسبوق يضرّ بالمصلحة السعودية نفسها. عامل التهديد الخارجي مبالغ فيه في سياسة الأمن القومي السعودي الحالية، ويمكن تقليل الكثير من الخسائر بإزالة هذا العامل من القائمة.
3- الجغرافيا السياسية: إذا ما استثنينا اليمن نظرياً، فإنّ كل ما جرى في العالم العربي في العقد الأخير لا يؤشر إلى خطر محدق بالسعودية، فشأنها شأن الكثير من دول المنطقة التي تحظى بتنوع قومي وعرقي أكثر غنى منها، كان بمقدور المملكة التعامل مع التحولات في الجغرافيا السياسية بما يتناسب ومصالحها سلمياً، ومن دون الحاجة للجوء إلى القوة، وهو خيار بادرت إليه من دون وجود تهديد مباشر، بعد أن قررت التدخل في الشأن السوري بكل ثقلها، ثم كررت التجربة في العراق ولبنان وليبيا، من دون أن تنجح في تحقيق ما ترغب فيه سياسياً، ليتحول محيطها القريب إلى عاصفة مستمرة تهدد تركيبة الداخل السعودي القبلية والمذهبية.
بالمناسبة، فإن “الديموغرافيا” هي أيضاً عنصر من عناصر الأمن القومي، ولكن تجربة السعودية في اليمن والعراق ومع إيران، كما في استمرار حملات التضييق على أبناء المنطقة الشرقية، تجعل من هذا العنصر عامل تهديد داخلي كانت المملكة بغنى عنه لو اتبعت أسلوباً آخر.
4- السياسة الخارجية: لا يمتلك ولي العهد الحالي، الحاكم الفعلي للسعودية، أي خبرة تُذكر في ميادين المناصب التي يتسلّمها. وبالنسبة إلى حاكم لا يتعدى الخامسة والثلاثين من العمر، فإن قيادة دولة بحجم السعودية تعني في أفضل الأحوال التعلم من الكثير من الأخطاء، لكن السمات الشخصية لمحمد بن سلمان وشغفه بمغريات الشباب لا تطمئن.
وفي حين أن الكثير من التقارير الصحافية في مجلات وصحف مرموقة عالمية تنعت الأمير الشاب بنعوت العنف والديكتاتورية، فإن مقاربة تجربته تستدعي في مكان ما “تفهّم” سياساته الطائشة، وهو الذي لم يحظَ بخبرات وتعليم يؤهله لمناصبه الكثيرة أو المقارنة مع رموز سابقين في الدبلوماسية السعودية.
في لقاءات ابن سلمان مع زعماء العالم، يوجد الكثير مما يكشف عن هذا الخلل، وهو ما ستكشفه بشكل أوضح التحديات القادمة على المملكة، بفعل أسباب عديدة تتراكم منذ 5 سنوات على أقل تقدير.
5- السياسة الداخلية: لطالما اتسمت المملكة بأفكار محافظة حد التشدد، ما استدعى دائماً انتقادات غربية واسعة، على خلفية ملفات حقوق الإنسان.
من دون أي سابق إنذار، قرر محمد بن سلمان تغيير قيم المجتمع السعودي تحت عنوان الإصلاح. لسنا في وارد الحُكم على صحة هذا القرار من عدمه، ولكن تغيير المجتمعات الدينية المتشددة يسلتزم وقتاً طويلاً، وينبثق في العادة من الأسفل نحو الأعلى لا العكس، وإلا أتت نتائجه عنيفة.
الشق الاجتماعي من رؤية ابن سلمان تحت اختبار جدّي. وكما أظهرت مؤهلاته السياسية والعسكرية ثغرات جوهرية في سياسات السعودية، فإن التعامل مع العناصر الداخلية المساهمة في تشكيل الأمن القومي يبدو أشبه بالتلاعب بقنبلة.
6- الاقتصاد: يحاول ابن سلمان جاهداً تحويل الاقتصاد السعودي من الاعتماد على النفط نحو قطاعات أخرى، وهو محقّ في نيّته بالتأكيد، ولكن هذه النيّة تصطدم بعوائق متجذرة في المجتمع السعودي، الذي لم يعش في تاريخ المملكة الحديث ضغوطاً اقتصادية. ومنذ استلام الملك سلمان الحُكم، تشهد الميزانية السنوية السعودية تراجعاً واضحاً في الكثير من القطاعات الحيوية، وجاءت جائحة كورونا لتزيد من الضغط، مدفوعة بالانخفاض الحاد لأسعار النفط عالمياً.
لا يزال من المبكر الحديث عن “أزمة” اقتصادية في السعودية بالمعنى الدقيق للكلمة، فالمملكة تمتلك احتياطياً كبيراً، لكن السؤال هو في قدرة هذا الاحتياطي على تلبية التحديات المتصاعدة التي أوجدتها رؤية ابن سلمان خلال 5 سنوات فقط.