الدكتور احمد إسماعيل* يكتب:
في عالم يزداد تعقيداً وسرعة، أصبحت المؤسسات أشبه بسفينة تتحدى الأمواج العاتية وسط محيط لا يهدأ. ولكي تتمكن هذه السفينة من مواصلة إبحارها والوصول إلى وجهتها بأمان، فإنها تحتاج إلى بوصلة توجهها وخريطة تحدد ملامح الطريق. تلك البوصلة هي التخطيط الاستراتيجي، العقل المدبر الذي يقود المؤسسات نحو تحقيق أهدافها وضمان بقائها في وجه التحديات المتغيرة.
إن المؤسسات التي لا تمتلك استراتيجية واضحة، أو تعتمد على استراتيجيات وهمية لا تمت للواقع بصلة، أشبه بمن يمشي في الظلام دون هدى. تلك المؤسسات مهددة بالانهيار، إن لم يكن اليوم، فغداً أو بعد غد. فنجاح وتطور المؤسسات ومواكبتها للاحتياجات المعاصرة، مهما كان مجال عملها، هذا النجاح لا يأتي صدفة ولا يتحقق بالتمني، بل يحتاج إلى رؤية واضحة وخطة مُحكمة تُترجم الرؤية إلى أفعال وبرامج ملموسة.
إن العمل دون تخطيط استراتيجي ليس مجرد خطأ إداري، بل هو حكمٌ بالزوال، حيث لا يمكن للمؤسسات أن تعتمد على إنجازات ورقية أو شعارات زائفة لتبقى في المنافسة أو تحقق أي تقدم حقيقي.
التخطيط الاستراتيجي ليس مجرد وثيقة تُكتب لتُحفظ على الرفوف او لتزيين الملفات، بل هو عملية مستمرة تُترجم فيها الرؤى إلى أهداف، والأهداف إلى خطط تنفيذية واقعية. إنه الآلية التي تجعل المؤسسة قادرة على التكيف مع المتغيرات، والاستفادة من الفرص، ومواجهة التهديدات. والمؤسسات التي تفهم جوهر التخطيط الاستراتيجي لا تترك شيئاً للصدفة، بل تسعى بكل حزم إلى تحديد أولوياتها، واستغلال مواردها بذكاء، وتوقع التحديات قبل وقوعها. إنها تعمل بفكرٍ استباقي، حيث يكون لكل خطوة معنى، ولكل إنجاز تأثير ملموس خاصة المؤسسات وثيقة الصلة بتنمية المجتمعات وتحسين مستوياتها على مختلف الأصعدة اجتماعيا واقتصاديا وبيئيا.
أما تلك المؤسسات التي تتباهى بإنجازات وهمية واستراتيجيات لا تتجاوز الورق، فهي تسير نحو الهاوية. مثل هذه المؤسسات قد تخدع نفسها وبعض من حولها لفترة، لكنها عاجلاً أم آجلاً ستلقى مصيرها المنطقي. فالإنجازات الحقيقية لا تُقاس بالكلمات البراقة، بل بالنتائج الفعلية على أرض الواقع. هذه المؤسسات تفتقر إلى الرؤية، وتهدر طاقاتها في محاولات بائسة للتظاهر بالنجاح، بدلاً من مواجهة الواقع والعمل على تغييره. فضلاً عن أن المؤسسات بدون استراتيجية تكون متخبطة بين أزمات داخلية وضغوط خارجية. قد تحقق نجاحات مؤقتة، لكنها تظل عُرضة للانهيار خاصة في البلدان التي لا تمتلك رفاهية الوقت ولا تمتلك موارد يتم انفاقها على إنجازات وقتية او وهمية.
والمؤسسات التي تتمتع بذكاء استراتيجي تكون الاستراتيجية التي تعمل على تحقيقها مرنة، مبنية على فهم عميق للبيئة المحيطة ورصد الوضع الراهن وتحديد الأولويات ما بين عاجل وهام وصولا الى غير العاجل وغير الهام، بحيث تكون استراتيجية المؤسسات متكاملة مع رؤية الدولة واستراتيجيتها العامة. حيث أنه لا يمكن للمؤسسات أن تعمل بمعزل عن دولها. فالدولة، برؤيتها وخططها الاستراتيجية، هي الإطار العام الذي تنبثق منه استراتيجيات المؤسسات. فكما أن القطار لا يمكن أن يتحرك وفق تحكم دقيق في مساراته المحددة من التوقيت والمكانية، كذلك المؤسسات لا يمكن أن تنجح دون انسجامها مع الأهداف الوطنية.
عندما تُبنى الاستراتيجيات المؤسسية على أساس رؤية الدولة، تصبح المؤسسات شريكاً حقيقياً في تحقيق التنمية المستدامة. فهي تساهم في دفع عجلة التنمية، وتعزز من مكانة الدولة على المستويين الإقليمي والدولي. أما المؤسسات التي تتجاهل هذا التكامل، فإنها تضع نفسها في خطر العزلة، مما يجعلها أقل قدرة على الاستمرار في مواجهة تقييم جدوى وجودها اصلاً.
ولكي تكون الاستراتيجية فعالة، يجب أن تتجاوز الكلمات الرنانة والشعارات البراقة. إنها تحتاج إلى برامج ومشروعات ملموسة، تُترجم الرؤية إلى واقع. يجب أن تكون هذه البرامج قابلة للقياس، ومحددة بزمن، ومنسجمة مع الموارد المتاحة.
وقادة المؤسسات في وطننا الحبيب – وهذا ليس تعليماً وإنما تذكير لمن يعلم – عليهم أن يتذكروا أن التخطيط الاستراتيجي ليس رفاهية، كما أنه ليس نهاية المطاف، بل هو البداية. فتنفيذ الاستراتيجية ومتابعة نتائجها، وتصحيح المسار عند الحاجة، هي الخطوات التي تحول الرؤية إلى حقيقة، ولا يمكن للمؤسسات أن تحقق النجاح والاستدامة دون تخطيط استراتيجي سليم. فالتخطيط هو عقلها المدبر، واستراتيجيتها هي قلبها النابض. والمؤسسات التي لا تستثمر في التخطيط، أو تعتمد على استراتيجيات زائفة، تدفع ثمناً باهظاً قد ينتهي بها إلى الانهيار مهما كانت ضاربة بالتاريخ الى عقود او قرون من الزمن. وأصبح حتمياً وبما لا يدع مجالا للشك أن كل مؤسسة لابد وأن تتبنى استراتيجية قوية، واضحة، ومرنة، تنبثق من رؤيتها الخاصة، وتتوافق مع رؤية الدولة. فقط عندها، يمكن أن تحقق النجاح المستدام، وتضمن استمراريتها وسط أمواج التحديات العاتية.
وختاماً، في هذا الزمن الذي لا يرحم الضعفاء أو المترددين، لا مكان إلا للمؤسسات التي تفكر بجدية وتعمل بوعي. الاستراتيجية ليست خياراً، بل ضرورة. هي الفرق بين البقاء والفناء. المؤسسات التي تدرك هذه الحقيقة تعمل اليوم لصناعة الغد، بينما تظل المؤسسات الوهمية عالقة في الحاضر، حتى يأتي ذلك اليوم الذي يُكشف فيه زيفها، وتُكتب نهايتها.
كاتب المقال: *رئيس اللجنة المركزية للتخطيط والمتابعة وعضو الهيئة العليا بمؤسسة القادة للعلوم الإدارية والتنمية – مصر.