أرجوك أريد أن اطمئن عليك فإن القلق يكاد يقتلني”.. كانت هذه الكلمات آخر ما وقعت عليها عيني مروان، كانت الرسالة من هند ، الحبيبة التي تعلق بها قلبه لكن القدر لم يجمعها ، وزاد من عمق المأساة أنها لم تستطع أن تكون بجواره في أصعب مواقفه وأحرج لحظات حياته.
نشأ مروان وسط أسرة متوسطة الحال، وتوفي والده وهو في المرحلة الإعدادية وكان أكبر أشقائه الأربعة، فالتحق بورشة للميكانيكا لمساعدة والدته في نفقات المعيشة فلم يكن معاش والده يكفي قوت يومهم، ورغم هذه الحياة القاسية فقد كان مروان يصر على مواجهة ظروفه وكان يستلهم منها روح التحدي، كان متفوقا في دراسته، وحصل على مجموع كبير في الثانوية العامة فالتحق بكلية الهندسة، لكن الحياة عادت مجددا لتدير ظهرها له حيث زاد العبء عليه بعد سقوط والدته فريسة لمرض عضال، ثم لفظت أنفاسها الأخيرة وأغمضت عينيها بين يديه وصعدت روحها لبارئها وهي توصيه بألا يتخلى عن أخوته.
وبعد أن شارك أقاربه وجيرانه دفن جثمان أمه، عاد سريعا للمنزل واحتضن أشقائه الصغار بقوة وأكد لهم أنه سيضحي بحياته من أجلهم مهما كلفه ذلك من تعب، وكانت دموعه التي تغرق وجنتيه دليلا على الهم الكبير الذي يعيشه في وقت يفترض أن يتنسم فيه عبير الأمل.
ظل مروان محتفظا بعمله في الورشة التي كان يحصل منها على مبلغ كبير بعدما صار مطلوبا بالاسم من الزبائن لمهارته وإتقانه عمله ، وتخرج في الكلية وبدأ يفكر في التخطيط لمستقبله، وفي نفس الوقت كان مهموما بالمسئولية الملقاة على عاتقه حيث كان حريصا أن يعبر بأشقائه إلى بر الأمان، التحق بالعمل في مصنع كبير للسيارات وخلال أعوام معدودة ترقى في المناصب، وصار من أشهر مهندسي المصنع وذاع صيته وتم تكريمه لجهده وإخلاصه في العمل.
في تلك الأثناء كان مجلس إدارة المصنع بصدد تكوين فريق عمل من المهندسين المهرة للتدريب على آلات حديثة، فوقع الاختيار على مروان الذي أثبت كفاءة كبيرة واستطاع بموهبته أن يصقل مواهب المتدربين وهو ما نال تقدير مسئولي المصنع.
كان مروان يلاحظ أن عينى فتاة من المتدربين تلاحقانه أثناء المحاضرات النظرية، وكانت صاحبتهما حريصة أن تظل ملاصقة له في التدريب العملي، كان يظن أنها متحمسة وتسعى لحصد أكبر استفادة ممكنة خلال فترة التدريب، لكنها في اليوم الأخير من التدريب صارحته بإعجابها به فارتبك ولم يرد، وانصرف وحمرة الخجل تكسو وجهه، فهو لم يعش فترة مراهقته، ولم تمنحه ظروفه رفاهية الحب أو الخوض في علاقة عاطفية، فقد كانت حياته ما بين دراسته ورعاية أشقائه.
في هذه الليلة، خاصم النوم عينى مروان، فظل يفكر في أسلوب الفتاة المباغت وغير المتوقع الذي اقتحمه فجأة وبدون استئذان، لكن قلبه شعر بسعادة اصابته بدهشة لم يجد لها تفسيرا، وأثناء غفوته طرق باب غرفته شقيقه الأصغر ليذكره بتكاليف الدرس الخصوصي، انتبه من حلمه القصير وأدرك أن الواقع الذي يحاصره قادر على أن يخمد أية مشاعر أو أحاسيس جميلة فى حياته.
مر أسبوع وتسلم المهندسون الجدد عملهم وكان من بينهم الفتاة التي أبدت إعجابها به، فأصر ألا تلتقي عيناهما خشية أن يضعف ويستسلم لعاطفة لا مكان لها في واقعه المؤلم ، لكنه أمام مشاعرها الجياشة سقط أسيرا لحبها ، وقبل أن يجاريها في حالة العشق شرح لها ظروفه ، وأنه لا يستطيع الزواج الآن لأنه مسئول عن أخوته، فوعدته بأنها ستتحمل معه هذه الظروف حتى ينهي واجبه نحوهم ولن تضجر بذلك يوما.
وفي جلسة مصارحة قال مروان لأشقائه عن التطورات التى حدثت في حياته، فرحبوا بزواجه وتمنوا له السعادة وتعويض ما فاته خلال الأعوام الماضية التي ظل خلالها نموذجا للعطاء والوفاء، فأكد لهم أنه لن يتغير شئ بعد الزواج، وسيظل يساندهم حتى ينتهوا من دراستهم.
تزوج مروان وبقلبه طموحات وآمال أن تكون زوجته عشا دافئا يعيد الحياة لأحاسيسه ومشاعره المتبلدة بفعل ما مر به من ظروف قاسية، وأن تكون عونا له في إكمال رسالته نحو أخوته، وبعد نحو عامين من السعادة رزقه الله خلالها بفلذة كبده شريف، حدث ما لم يتوقعه مروان إذ طالبته زوجته بالتوقف عن مساعدة أشقائه بحجة بأن ثلاثة منهم أنهوا دراستهم، وقد آن الأوان أن يعتمدوا على أنفسهم، وأن أي مبلغ يصرف عليهم هي وابنها أحق به ، فذكرها بوعدها بـأنها ستتحمل ظروفه فتنصلت وقالت إن الظروف تغيرت، ساءت العلاقة بينه وزوجته فتركت المنزل بعد تصاعد حدة النقاش بينهما ، وكانت تهدده دائما بحرمانه من شريف لإدراكها أنه بمثابة الهواء الذي يتنفسه.
حاول مروان رأب الصدع مع زوجته لكنها أصرت على موقفها وخيرته بينها وأخوته، جدد محاولاته حرصا منه على عدم هدم حياته الأسرية ، لكن إزاء تعنتها لم يكن يملك إلا الوفاء بوعده لوالده ، فاختار أشقاءه وانفصلا بهدوء، لكنه طالبها بألا تحرمه من رؤية ابنه، فوعدته بأن يراه مرة كل أسبوع، ثم قدمت استقالتها مع المصنع، فأدرك أنها تريد قطع كافة السبل بينهما ، وفي نهاية الأسبوع الذي رحلت فيه عن المصنع ذهب مروان لرؤية ابنه، فوجد قفلا على باب الشقة، وسأل الجيران فصعقوه برد كاد يفقده اتزانه وأخبروه بأنها غادرت للإقامة مع شقيقها بالخارج، وعندما سأل عن نجله قالوا إنه كان برفقتها، وكادت المفاجأة أن تذهب بعقله، فقد خفق قلبه خوفا من ألا يرى ابنه للأبد.
عاد مروان يجرجر ذيول خيبة الأمل، وطلب إجازة من العمل، واعتزل البشر دون أن يهمل أخوته، وكان تفكيره منصبا على إيجاد طريقة لرؤية ابنه، وفي كل ليلة كانت دموعه تتساقط على صورة شريف وهو يحتضنها حتى يغلبه النعاس، وبعد أشهر من البحث انتابه اليأس في العثور على ابنه بعدما تعمدت والدته أن تتنقل به في عدة مدن في الدولة التي اختارت أن تعيش بها.
أطلق مروان لحيته واتجه إلى حضور الدروس الدينية في قاعة ملحقة بمسجد مشهور إذ تملكه إحساس بالزهد في الحياة ، وفي إحدى المرات أثناء انصرافه شاهد سيدة برفقتها صبي تقف بجوار سيارة في حال من الارتباك، اقترب منها وسألها عن السبب فقالت له إن عطلا مفاجئا أصاب سيارتها، وإنها تبحث وابنها عن وسيلة للعودة إلى المنزل، فعرض عليها أن يوصلهما، وبعد تردد وافقت على استحياء، وكانت في حالة من الخجل الشديد، وفي الطريق فهم من حديثها أنها تحضر نفس الدروس التي يحضرها لكن في قاعة السيدات، وأن اسمها هند وهى موظفة في إحدى الجهات الحكومية المرموقة.
لم يستمر الحديث طويلا فقد كان منزلها قريبا، رمقته بنظرة خاطفة ووجهت له الشكر، وانصرفت بخطوات سريعة، عاد مروان لمنزله ولم يقف كثيرا أمام الموقف الذي جمعه بهند فقلبه لا يزال ينزف متأثرا بجراح لم تلتئم، لكن ما لفت نظره وقار وخجل السيدة والتزامها الشديد.
مرت أسابيع ولم يلتقيا مجددا، وبينما كان مروان يستعد للانصراف بسيارته بعد أحد الدروس.. شاهد هند في طريقها لسيارتها وكانت ترتدي ملابس حداد سوداء، فترجل وهرول نحوها، وبادر بالسلام فردت بصوت حزين، فسألها هل توفى أحدا من عائلتها فقالت إن والدتها رحلت منذ أسبوعين، فاستأذن أن يزورها في بيتها في مساء اليوم التالي لتقديم واجب العزاء، فرحبت به، وطلب رقم هاتفها لكي يتأكد من أن موعد زياته مناسبا ، وبعدما عاد لمنزله وبخ نفسه لأنه يقحم نفسه في حياة إنسانة لا يعرف عنها شيء، كما تعجب من موافقتها على استقباله في بيتها.
تردد مروان في زيارة هند لكنه حسم موقفه وقرر الذهاب لتقديم واجب العزاء، استقبلته بود ودار بينهما حديث مقتضب، علم منه أنها أرملة منذ ثلاثة أعوام، وكانت والدتها سندها هي وابنها في الحياة، ووعدها بأن يزورها في عملها بعد نهاية فترة الحداد، كما دعاها لزيارته في مكتبه، لكنه شعر بحرج شديد بعد أن زار هند عدد من أقاربها فانصرف سريعا.
ورغم مشاعر اللهفة التي باتت تسيطر على مروان بأن يلتقي بهند فإن مرارة ابتعاد ابنه كانت تقتل أية محاولة بداخله للتمرد على الحزن فقرر ألا يزورها في العمل كما وعدها ، ومر أكثر من شهر، وقسى مروان على قلبه الذي بدأ يتنفس مجددا الأحاسيس الجميلة، وفضل أن يظل إعجابه صامتا وكامنا داخل قلبه ، وبينما كان مروان منهمكا في عمله رن هاتفه فأصيب بالدهشة حيث فوجئ أنه اتصال من هند، تردد كثيرا في الرد حتى انتهى الاتصال، وكررت المحاولة أكثر من مرة لكنه لم يرد، ووقف عاجزا عن تفسير أسباب عدم رده، ثم أرسلت هند رسالة تستفسر عن أسباب عدم رده وقلقها بأن يكون قد أصابه مكروه ، عاد مروان للبيت وظل يفكر عن أسباب رفضه الرد على هند ، ثم وجد يده تزحف نحو صورة شريف فتساقطت دموعه واحتضنها ثم استلسم للنوم.
في اليوم التالي وجد أنه من غير اللائق أن يتجاهل اهتمام هند، فاتصل بها ليعتذر عن عدم رده أمس، مبررا ذلك بانشغاله في اجتماعات على مدار اليوم، وخشى أن يزعجها بالاتصال لعودته إلى المنزل متأخرا، لاحظ اهتمامها بالسؤال عن أخباره، ثم أخبرته بأنها ستزوره في مكتبه في نهاية الأسبوع فتظاهر بسعادته بالزيارة، لكنه ظل يتساءل عن أسباب اهتمامها على رغم أنه لم يبد أي اهتمام بها منذ تعزيتها في وفاة والدتها.
وجاءت هند في موعدها وكانت في قمة أناقتها، كان قلب مروان يخفق، وتزايدت عدد دقاته وكأنه مراهق على موعد مع تجربة حب للمرة الأولى، لم يقاوم سحر عينيها ، فتغزل فيها لكن بخجل ، فشكرته بحياء، وكسر حاجز ورهبة اللقاء طلب هند تعيين نجل شقيقتها الحاصل على بكالوريس هندسة ، فوعدها بإيجاد فرصة عمل مناسبة له في المصنع خلال أيام، وظل مروان يهرب من نظرات هند، فاستأذنت وانصرفت.
عاش مروان في حيرة من نظرات هند التي كانت تريد أن تبوح بشئ ما بداخلها، لكنها تتناقض مع حديثها الجاد، وبعد أيام أوفى بوعده وزف لها خبر تعيين نجل شقيقتها، فأمطرته بعبارات المديح والشكر، ثم اتصلت به في اليوم لتدعوه لتناول العشاء في منزلها بحضور أسرة شقيقتها، وبصعوبة وافق مروان على الدعوة .
أمضى عدة ساعات في جو أسري دافئ ، وشكر هند على الحفاوة وانصرف سعيدا، لكن الزيارة دغدغدت مشاعره وذكرته بأسرته الصغيرة، وكان للقاء مفعول السحر إذ عمق العلاقة بين مروان وهند وصارت الاتصالات بينهما على مدار اليوم، وتطورت العلاقة إلى ارتباط عاطفي ثم اتفاق على الزواج.
كانت هند ترى في مروان الإنسان الذي سيعوضها عن وحدتها، كما كانت سعيدة بحنانه على ابنها، وكانت تنتظر على أحر من الجمر إتمام الزواج، بينما كانت سعادة مروان منقوصة فكان ابنه شريف يشغل مساحة كبيرة من قلبه، وصارح هند عن إحساسه بالحزن لغياب ابنه عنه، فاحترمت مشاعره، ووعدته أن تكون نهرا من الحنان ينهل منه.
انشغل مروان وهند على مدار عدة شهور في تجهيز عش الزوجية ، ثم حددا موعدا لعقد القران.. وفجأة شعر مروان أثناء وجوده بمكتبه بصداع شديد ثم سقط مغشيا عليه ونقل للمستشفى في حالة حرجة، وكشفت الفحوصات أنه يحتاج إلى جراحة عاجلة بالمخ ، زلزلت الصدمة كيان مروان، وعاد لمنزله مهموما حزينا وظلت الدموع رفيقة ليلته ، كان كل تفكيره في ابنه الذي قد يغادر الحياة بدون أن يراه، وفي هند التي تتراقص الفرحة في قلبها انتظارا لأمل وحلم جديد .
تردد مروان، كيف سيخطر هند.. وكيف سيكون سببا في قتل فرحتها ؟.. وبعد أن أبلغها بالخبر المشؤوم، احتضنته بقوة ووضعت قبلة على جبينه، وأكدت أنها ستظل بجواره ولن تتركه لحظة حتى يجتاز الأزمة الصحية ، فكرت هند كيف تسعد حبيبها ، كانت تعلم أن روحه معلقة بابنه شريف ، بذلت جهدا كبيرا للوصول للمكان الذي يتواجد به مع أمه ، وعن طريق أحد أقاربها الذي يعمل بوزارة الخارجية وصلت لهاتف طليقته ، وتوسلت لها أن تعود لعدة أيام لكي يرى مروان ابنه قبل أن يجري الجراحة وشرحت لها خطورة حالته الصحية ، ويبدو أن حديثها الباكي قد أثر بالفعل في قلب الزوجة الأولى المتحجر، فوعدتها بالعودة خلال أيام.
وظلت هند تدعو الله في صلواتها بألا يتأخر شريف ووالدته، وبعد نحو أسبوع تلقت اتصالا من زوجة مروان السابقة تخبرها بأنها ستصل بعد يومين ، زفت هند الخبر لمروان الذي كاد يحلق في السماء من السعادة.
قبل وصول الطائرة بساعات، جلس مروان في المطار ملتفحا بمعطفه وكان في حالة صحية متدهورة ، غلبته مشاعر الشوق والحنين لشريف فدمعت عينيه، ومع اقتراب موعد وصول الطائرة انصرفت هند لتفادي أي حرج لها، كانت يدها تحتضن يد مروان بقوة كأنها تودعه، لم يطاوعها قلبها أن تترك حبيبها الذي يتألم من جراح القلب والعقل، وظلت تنتظر لرؤية لحظة لقائه بشريف، وما أن أطل ابنه في صالة الوصول حتى هرول مروان نحوه ليقبله ويحتضنه، ثم صافح والدته ببرود..
ظلت هند تنتظر اتصالا من مروان لكن يبدو أن فرحته بفلذة كبدة جعلته ينسى وعده لها بأن يطمئنها على صحته التي كانت بحالة يرثى لها ، مر أسبوع ولم يتصل، فأصابها حزن كبير لتجاهلها، فأقسمت ألا تتصل به مجددا .
وبينما كانت تراقب هاتفها بانتظار اتصالا من حبيبها ، لفت انتباهها تاريخ اليوم حيث كان يتبقي ثلاثة أيام على موعد عملية مروان الجراحية ، اتصلت به فلم يرد، فأرسلت له رسالة قالت فيها “أرجوك أريد أن اطمئن عليك، القلق يقتلني “.. لكنه لم يرد أيضا ، بدون تفكير ذهبت لبيته فوجدت شريف يفتح الباب باكيا ، فسألته عن السبب فقال لها ” رحل أبي أمس.. كنت بجواره وقرأت له رسالتك التي كانت أخر من وقع عليها عينيه ” … كَفْكِفت هند دموعَها ورحلت بهدوء.