“أوكار المتعة الفنية وهموم الإنسانية” في المجموعة القصصية “مصائد النسيان”للقاص المغربي بوشعيب عطران رؤية نقدية إيمان الزيات – مصر عضو اتحاد النقاد العرب من الوهلة الأولى وبمجرد تصفح القاريء لهوامش تلك المجموعة الرهيفة من عناوين وعتبات ولوج ومفاتيح موحية للنصوص الداخلية، ومن الإهداء اللافت الذي وجهه القاص(بوشعيب عطران) إلى المنسيون بعالمنا الشرس وذاكرتنا الضيقة، ناعتاً نصوصه فيه “بالإيحاءات” وواصفاً الغرض من الكتابة بأنه (لهدم هوة النسيان) سيعلم القاريء أنه بصدد الشروع في القراءة لكاتب لديه ما يمكن أن نطلق عليه مشروعاً إبداعياً متكاملاً بداخل كتابه ومتمثلاً في مجموعة من النصوص المنفصلة شكلاً والمتصلة مضموناً ومقصداً.
حيث يلتقط القاص المغربي (بوشعيب عطران) اللحظات والمواقف والمشاعر والشخوص التى سقطت سهواً أو عمداً في (مصائد النسيان) فيستحضرها ويستدعيها من المخيلة أو من ذاكرة الكاتب الانتقائية، ويعيد صياغتها بتفاصيل جديدة لإحيائها في نفس القاريء بلغة شعرية مفعمة بالصور والتخييل، مكتنزة تعتمد على الأفعال المتلاحقة والمتتالية لنقل الحركة والحالة الانفعالية.
متكأً في ذلك على مجموعة من التقنيات الكتابية المتنوعة التى أضفت على المجموعة جواً من الرشاقة والحيوية؛ فلقد استخدم السرد والحوار، وطوع المنولوج تطويعاً مائزاً في قصتي ( طريق النسيان، ضجيج الصمت) حيث يعد المنولوج هو البطل الرئيسي بها، نعم لقد استطاع القاص (بوشعيب عطران) أن يجعل من التقنيات أبطالاً وأعمدة بناء أنيقة وقوية داخل مشروعه الإبداعي. كما عمد إلى كسر النسق الكتابي عن طريق استخدام بعض التقنيات السينمائية كأسلوب المشاهد الذي صاغ به قصته (مشاهد من ليلة عابرة) التى احتوت على خمس من مشاهد الانكسارات البشرية المختلفة، مبتدئاً بالآخرين في تلك المدينة الكبيرة ومنتهياً بالبطل الذي تحول في النهاية إلى مشهد مكرور من مشاهدها التى يعرفها السكان جيداً، وبالركون إلى التقنية المسرحية التى تعتمد على تقسيم النص إلى (في الخارج، في الداخل، ما بين الداخل والخارج، اللقاء الأخير/ الفضاء) في رائعته القصصية (حديث الريح)، الأمر الذي يشي بأنه لا يدخر جهداً في سبيل اخراج نصه بشكل مغاير ومختلف مبتعداً به عن ملل التكرار الفني والتقني.
برعت الروح الشاعرة لدي الكاتب في ترصيع نصوصه بمجموعة أيقونية من الجمل التى ازدانت بتقنيات (الأنسنة، تراسل الحواس) حيث استعارالكاتب من خلالها صفات الملموس ليكمل ويجسد المحسوس بغرض وصول المعنى والدفق الشعوري مكتملاً بقدر الامكان إلى نفس وعقل المتلقي أو كما يريده الكاتب أن يكون، سواء كان ذلك في بعض هوامش المجموعة كالعناوين أو داخل المتن فنجده في ( ماضي جريح، ليلة حافية، تكسر الصمت، أحلام مجهضة، هواجس متمردة …الخ) تحتل (المرأة) مكانة لا بأس بها في المجموعة وتقع في المرتكز وعلى الهوامش وتتربع في المتن وتختفي أحياناً بين السطور، فتكاد لا تخلو قصة من قصص المجموعة منها سواء كانت موتيفة (فينوس) الجميلة ذات المواصفات القياسية في قصة (اللوحة) أو موتيفة ليليت (المرأة القوية المسيطرة الشبقية التى تغلب الرجل بمكرها وكيدها كما في قصة ليلة حافية) أو موتيفة المرأة المخادعة كما في قصة (إغراء)، والمرأة الحكيمة صاحبة الحجة والبرهان كما في قصة (ضجيج الصمت)، والأم الحنونة المتفهمة في قصتي (سيء الحظ، رحلة التيه)، والفتاة الطموحة كما في قصة (أحلام مجهضة)، والفتاة المقعدة كما في قصة( النافذة).
وحتى تلك القصص التى يتكلم فيها الكاتب عن ذات البطل فيستبطنها ويستنطقها نجد أن المرأة موجودة بتلك المخاوف أيضاً وإن اختلف شكلها الخارجي وفقدت الكثير من جاذبيتها وجمالها وذكائها كما في قصة (سفر) التى اعتمد فيها الكاتب أيضاً على الرمز فالسفر والطريق هما الحياة، والسائق هو الذات والظلام والتيه هما المخاوف، والتل هو العثرة التى تعرقل الإنسان، والقمر هو الأمل الكامن خلف العثرات. كما مثّلت الأحذية دوماً في القصص معادلاً موضوعياً للسلطة والقوة والقهر كما في قصتي (النافذة، مادار بخلدي). وفي قصة (النافذة) حيث كانت البطلة سعاد مقعدة على تخوم عالمين، هما عالم الأسرة الصامت، وعالم السوق الصاخب، وكانت النافذة في الوسط كممر سري إلى ذلك العالم الحيوي والمغاير الذي ساعدها على الاستشفاء السريع ومنحها أملاً فصارت تشاهد وتشارك الجميع من خلف الحائل الزجاجي جميع مواقفهم اليومية وضحكاتهم ومشكلاتهم، حتى أن اختفاء ذلك العالم قد استنهضها في النهاية وجعلها تترك كرسيها وتقف متشبثة بالنافذة بحثاً عن ذلك الأنس وتلك الألفة الغائبة.
تعددت الفضاءات المكانية في مجموعة (مصائد النسيان) ما بين البحر، الطريق، الحافلة، الغرفة، المدينة، المقهى، الشرفة لكن الفضاء الزمنى كان فضاءً هيولياً غير مدرك، فضاء الحالة والموقف المتماهي مع كل شخص في أي زمان لا فضاء التوقيت الذي يمكن أن نستثني منه البعض مما منح المجموعة صفة العمومية والشمولية التى تحسب لها.
ارتكزت المجموعة على ثيمة الشخصية (غير المنجزة) تلك الشخصية الإشكالية التى تعاني (فضاء العتبة/ فضاء الأزمات) وتصارع الليل والظلام والمجهول الذي يمثل كل ما تخافه النفس البشرية لجهلها به، كما تصارع بعض الأزمات المعيشية وتهيم على وجهها بحثاً عن لقمة العيش حيناً وعن ذاتها أحياناً كثيرة، حتى ارتبطت السعادة غالباً بنجاح البطل في مجرد الحصول على عمل.
وبصفة عامة فإن (التيه، والضياع) هما دوال أساسية هنا، وعلى الرغم من ذلك فإن القصص لا تخلو من بوارق أمل ومحاولات للبحث عن كل ضائع في عوالم أخرى، والعوالم الأخرى هنا ليست أكواناً أخرى وإنما قد يكون الشارع المجاور عالماً آخر بالنسبة لمن لم يطرقه من قبل فعلى الرغم من تكرار جملة ( عوالم أخرى) إلا أن المجموعة لا تعطينا شعوراً مطمئناً للركون لتلك الرحابة وهذا المتسع بل جل ما تذهب بنا إليه هو (عوالم أخرى على نفس الأرض وداخل ذات المدن).
لعب كل من (الحلم، والتذكر) دوراً رئيسياً في استحضار الفكرة إلى الزمن الآني متآزين مع (الراوي العليم) الذي سيطر على أغلب قصص المجموعة ومتعاونين مع (الراوي المشارك)، ومع (ضمير المتكلم) الذي نجح في تعرية النفس من داخلها عبر خارجها، وخلق ما يسمى (بالرؤية بالمصاحبة) في عرض الأحداث ونقلها للمتلقي وذلك بحكم وجود السارد كشخصية في النص، كما أنه دفع الزمن السردي للوراء من زمن السرد الآني لزمن وقوع الأحداث بالفعل فمن خصائص ضمير المتكلم أنه يقود الحكي للخلف.
كذلك استخدم الكاتب (بوشعيب عطران) تداخل الأجناس فجمع بين السرد النثري والشعر في قصة (هواجس متمردة) التي كان بطلها شاعراً وجاء على لسانه قصيدته القصيرة التى قال فيها: “هكذا؛ تتركني عالقاً كالفجر بين ثنايا الغيوم شارداً كالحلم بين أسوار المعاقل”.
لذلك لم يكن التداخل بين جنسي النثر والشعر هنا مقحماً أو مستهجناً. على الرغم من لغة الكاتب الرصينة إلا أن المجموعة لم تخلو من بعض الأخطاء كجملة: (الأمكنة الشبة الخالية) في قصة (ضجيج الصمت) على سبيل المثال، كما أنه كرر بعض الجمل في غير موضع بشكل لا شعوري كجملة ( رسم على شفتيه ابتسامة) التى كررها في قصتي (لوحة، ضجيج الصمت)، ومفردة (الكرى) التى تكررت في قصتي (طريق النسيان، هواجس متمردة) على الرغم من أنها مفردة مهجورة بعض الشيء كمفردة (مدلهم) التى جاءت أيضاً في قصة (حديث الروح).
امتازت المجموعة بالخاصية (الحوارية) التى من شأنها أن تثري النص بأنماط الحوار المختلفة التى تؤدي في النهاية إلى مفهوم ما (كالكلام المباشر، الجمل الحوارية، ووصف نبرة الصوت، وإيماءات الجسد، أو صوت الأشياء كأزيز المحرك، وصوت سقوط المطر، والصراخ، والأنين) وكل ما من شأنه أن يوصل مفهوماً ما للقاريء. تميزت النهايات في المجموعة ككل بأنها نهايات غير متوقعة، مفتوحة، واقفة عند حدود الحل وقبل انفراج الأزمة بخطوة مما أتاح مساحة للقاريء أن يشارك في انتاج النص بالتأويل للنهاية التى يميل لها ويرى أنها ربما تكون الملائمة.
وبصفة عامة فإن مجموعة (مصائد النسيان) للقاص المغربي الشقيق (بوشعيب عطران) مجموعة تشيء بأنها لقلم يتميز بالوعي والرهافة، منشغلاً بالإنسانية، مجدداً في أدواته وتقنياته، ممتلكاً للغته الجزلة، كما أن لا شيء في تلك المجموعة عبثي أو صيغ من قبيل الصدفة بل هي عبارة عن مشروع إبداعي مدروس ومتقن يتميز بالمصداقية والواقعية والمؤانسة.