قراءة في قصة “مصطبة جدتي” من مجموعة “قلب مهزوم” للكاتب الصحفي حسام أبو العلا
يعد العنوان العتبة الأولى للنص ومن لايحسن طرق الأبواب لا يحسن الولوج للنص، فالعنوان “المصطبة” يرسل إشارة للمتلقي بأن هذا النص يرسم لنا لوحة للقرية فالمصطبة بناء بسيط يعد طاولة اجتماعات لأهل القرية ولكن المصطبة تختص بالجدة لذلك نلمس الأصالة وندخل في أجواء يفتقدها أهل المدينة . يسرد لنا الرواي العليم شوقه ولهفته للقاء جدته “بشوق ولهفة كنت انتظر انتصاف اليوم وتراجع لهيب الشمس لأجلس بجوار جدتى على “المصطبة” فالزمان حضر من الوهلة الأولى “انتصاف اليوم” كما حضر المكان “المصطبة ” ويسرد الرواي العليم سبب انتظاره وشوقه للقاء جدته “دقائق معدودة لكنها كانت كفيلة أن تمنح قلبى الدفء الذى يفتقده منذ رحيل والدى فى ريعان شبابه إثر حادث أليم وانشغال أمى فى العمل لتوفير متطلبات الحياة لى ولشقيقتى الصغرى.
” فالراوي العليم رسم لنا لوحة لأسرة مصرية فقدت العائل ولذلك يحظى بمكانة خاصة في قلب الجدة .
ثم يصف الرواي العليم شكل المصطبة فهي “من الطوب اللبن الذى لا يتأثر بحرارة الجو وبجوارها طلمبة “حبشية” ماؤها البارد مقصد كل المارين فى الشارع ” .. والجدة كان لها نصيب من اسمها “بركة” “كانت جدتى”بركة”, كما كان يطلق عليها أهالى القرية ، فعندما يصاب أى شخص بكدمة أو”جزع” كان يأتى إليها , وبقليل من الزيت مع قطعة صوف”تدعك” موضع الألم فينصرف المصاب موقنا بأنه سيتعافى سريعا ، والغريب أنه كان يبرأ وبسرعة عجيبة ، رغم أنهم كانوا يأتون إليها للتبرك بيديها أكثر من التماس العلاج ، أما أنا فلم أكن مقتنعا بكل ذلك, لكننى كنت مستمتعا بهذه الأجواء إلى أقصى حد” فالسارد لم يكن مقتنعًا بكل ما يشاهده لكن المتعة كانت في مشاهدة تلك الأجواء ، ولذلك كان يوم الجمعة من أصعب أيامه وذلك لأن”فقد كان جدى يستقبل بعد صلاة العصر عددا من الجيران وكبار العائلات لاحتساء الشاى ومناقشة مشاكل القرية ، وهو ما كان يمنع جدتى من جلسة المصطبة اليومية، فكنت أترك البيت فى هذا اليوم وألعب مع زملائى كرة القدم وأعود بعد غروب الشمس.”
ولم تكن المصطبة ملجأ المرضى من أهل القرية فحسب ، بل كانت أيضًا بمثابة منتدى نسائي لمناقشة مشكلات نساء أهل القرية والجدة تلعب دورًا هامًا بحكمتها في امتصاص الخلافات ووضع الحلول”اشتهرت مصطبة جدتى بأنها ملجأ لسيدات القرية إذ كانت تستمع لمشكلاتهن بأذن صاغية وبدون ضجر ، وعندما تبدأ فى الحديث يصمت الجميع .. كانت آراؤها حكيمة جريئة لا تعرف المجاملة، ولم ألحظ يوما أى رد فعل غاضب من أى سيدة تُحملها جدتى مسئولية مشكلة ما ، بل كان أغلبهن يتمتمن بكلمات تعبر عن الاقتناع والطاعة مثل “حاضر.. اللى تشوفيه يا حاجة.. هعمل اللى قولتى عليه” ، ثم يقبلن يدها وينصرفن .
يرسم لنا السارد البناء الخارجي لشخصية الجدة كما رسم لنا البناء الداخلي ففضلا عن تميزها بالحكمة والوقار”فى قدرة هذه السيدة النحيفة، التى يندس جسدها المحنى لتقدم العمر فى ثوب فضفاض” ثم يوضح مكانته كحفيد عند الجدة “وعلى الرغم من أن أغلب أفراد العائلة كانوا يترددون كثيرا قبل الحديث معها خشية أن تصيبهم سهام نقدها اللاذع، فإننى على وجه الخصوص كنت أحظى لديها بمكانة كبيرة تصل إلى “التدليل” فقد كنت حفيدها الأول، وكنت سعيدا بهذه المكانة التى يحسدنى عليها الجميع”.
فسر تلك المحبة شعورها بالفقد فقد أنجبت والده بعد عامين من زواجها “كانت جدتى فى شموخها مثل الجبل، لكنى كنت الوحيد الذى لا تستطيع أن تخفى أمامه دموعها فتستسلم لأحزانها ، كانت تحدثنى عن والدى الذى أنجبته بعد عامين من زواجها، وكيف أنه كان أجمل فرحة فى حياتها .. تصمت وتشرد قليلا ثم تجهش بالبكاء عندما تتذكر يوم وفاة فلذة كبدها ، كان انهيارها يصيبنى بالقلق, فهى دائما قوية الشكيمة متماسكة ، كما كانت لى بمثابة السند والحضن الدافئ منذ أن تفتحت عيناى على الحياة.
ويطلعنا السارد على حلم الجدة بعد أن مرت أعوام وغادر القرية والتحق بكلية الطب “كنت أذهب لجدتى لأقبل يديها , فكانت تذكرنى دائما بحلمها أن ترانى طبيبا ذائع الصيت، وبأن اخصص عيادة فى قريتي لعلاج الفقراء مجانا، وكلما ذكرتني بهذا الأمر، كنت أعاهدها على تنفيذ وصيتها.
ثم يباغتنا برحيل الجدة قبل تخرجه في الجامعة بعدة شهور ورغم رحيلها إلا أنه نفذ الوصية “فقد ظلت وصية جدتى تؤرق مضجعى، فذهبت إلى جدى وطالبته بأن يشترى قطعة الأرض المواجهة لمنزلنا ، فرفض متعللا بعدم حاجتنا إليها ، لكنى صممت على أن اشترى جزءا من هذه الأرض وسط اعتراضات واحتجاجات كل أفراد العائلة ، وكلفنى هذا ميراثى من والدى كاملاً، إضافة إلى اقتراض مبلغ لا بأس به أيضا ، لكنى لم اهتم بذلك، فقد أقمت على هذه الأرض العيادة المجانية التى أوصتنى بها جدتي،” وكما بدأت القصة بالمصطبة انتهت بتعلق نظر الرواي العليم عليها وكأنها هي المعادل الموضوعي للوفاء بالوعد والحب الكبير لجدة احتوت حفيدها وأثرت في تكوينه الفكري مما جعله يضحي بميراثه ويخدم أهل قريته مجانًا ليوفي وعده وينفذ الوصية .
قصة لعبت فيها اللغة دورًا هامًا فالسهل الممتنع كان ركيزة أساسية في هذه القصة وعنصر التشويق والامتاع يجعل المتلقي لا يترك القصة إلا بعد أن يصل للنهاية ، بل لا يمل من قراءتها أكثر من مرة ، فقدم لنا المبدع “نوستالجيا” إيجابية أضفت على النص جمالًا ، وأكدت على قيمة نبيلة من قيم المجتمع كادت تندثر وهي “الوفاء” فالقرية ستظل منبع الصفاء والنقاء لذلك عاد الطبيب لجذوره ولم يتنصل من وعده لجدته.