بقلم / د. احمد اسماعيل
اليوم السابع عشر من أكتوبر يشهد الاحتفالية الـ 32 باليوم الدولي للقضاء على الفقر واختارت الامم المتحدة شعار الاحتفالية لهذا العام “إنهاء سوء المعاملة الاجتماعية والمؤسسية”. يحتفل العالم في مثل هذا اليوم ولمدة 32 عاما باليوم العالمي للقضاء على الفقر باعتباره مناسبة دولية تلفت الانتباه الى الفقر وتحث الشعوب والحكومات لشحذ طاقاتها لمكافحته والقضاء عليه، وبمجرد النظر الى ماهية هذه الاحتفالية يقع العقل بين مطرقة الواقع وسندان المـأمول، في ظل المتناقضات غير المسبوقة التي يشهدها هذا العالم الذى يصنع الفقر بالحروب والصراعات وفي ذات الوقت يقيم المناسبات العالمية للتذكير بأهمية القضاء عليه. ولا شك أن عام 2024 كان اكثر السنوات العجاف التي مرت بها بلدان العالم بدءا من الازمات الاقتصادية العالمية الى جائحة كوفيد كورونا، مرورا بثورات وصراعات الشرق الأوسط وما يسمى بالربيع العربي، وصولا الى صراعات يتحكم في بوصلتها اللوبي الصهيوني العالمي.
والحروب التي تقودها الدول الكبرى سواء علناً او باستخدام كيانات مرتزقة تحارب بالوكالة مثل الكيان الصهيوني، هي ذات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التي تحث العالم اليوم للقضاء على الفقر. وهي ذات الدول التي أنشأت برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذي أشار اخر تقرير له ان الحروب في السنوات الاخيرة رفعت نسبة الفقر في الدول التي تدور بها رحى الحروب الى ثلاثة اضعاف ما كانت عليه قبل هذه الحروب. وأكد التقرير ان عدد النزاعات المسلحة في عام 2023 فقط كانت الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية. ويطالعنا تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن مؤشر الفقر 2024 – يغطي العام 2023- يشير الى ان مليار ومائة مليون شخص يعانون من الفقر متعدد الأبعاد، نصفهم تقريبا في مناطق النزاع القائم حاليا. وفي تلك البلدان تسجل معدلات فقر أعلى بثلاث مرات من الدول الأخرى الاَمنة. كما ان الحرمان الذي يعيشه سكان هذه المناطق يكون اكثر حدة لخمس اضعاف ما يعانيه فقراء الدول التي ليست بها معارك او حروب قائمة.
وتشير تقارير مؤشرات الفقر في العالم الى أن افقر الفقراء في العالم من سكان الدول الخمس التي تعاني من معدلات الزيادة السكانية وعلى رأسها الهند التي يمثل افقر فقراء العالم فيها 234 مليون انسان من إجمالي المليار ونصف المليار نسمة، واثيوبيا بها 86 مليون نسمة من اجمالى السكان 123 مليون يعني ما يقارب 70 في المائة من سكانها تحت وطأة الجوع المدقع، ومع ذلك تجد هذا الشعب البائس يقع تحت وطأة نظام لا يمل من الدخول في صراعات دولية على حدوده وبعيدا عنها لينفذ اجندات لكيانات احتلال خبيثة تريد ان تطال من الشعوب ومقدراتها بطرق بعيدة عن المواجهات المباشرة. أما في نيجيريا هناك 43 في المائة من سكانها (74 مليون) و66 في المائة من سكان الكونغو الديمقراطية (66 مليون) هم من ضمن افقر دول العالم. كل هذه الحقائق المفزعة رغم قسوتها لم تتضمن نتائج حرب الإبادة في 2024 التي تشهدها فلسطين او التدمير الذي يشهده لبنان بدعم غير صريح ومساندة مفضوحة من الكبار في الأمم المتحدة. كل هؤلاء وغيرهم ضحايا حروب وصراعات ونزاعات، فضلا عن غيرهم من ملايين السكان في الكثير من دول العالم القابع تحت وطأة فقر قد يكون اقل حدة لكنه نتيجة لضعف سياسات او فشل حكومات في تعظيم الاستفادة من الموارد لتحقيق الرفاه الشعوب. او دول يحكمها الموقع الجغرافي والاطماع السياسية الدولية ان تولى اهتماما للتسليح على حساب التنمية أحيانا. او دول يعيق مسيرة تنميتها اختلاق الأزمات داخليا وخارجياً. ومن المتناقضات أيضا ان كبرى دول العالم التي تصنع الفقر والجوع والمرض هي ذاتها التي تصنع المؤشرات والمعايير الدولية لجودة الحياة للشعوب. قمة الازدواجية والتلاعب بحاضر ومستقبل الأمم. والحقيقة الأكثر واقعية ان الفقر يتضخم، والفقراء في ازدياد، والصور الفقر وحدته تزداد قسوة وسطوة. بينما صناع الفقر هم من يتشدقون بمحاربته والقضاء عليه.
وفي جانب اخر من عالم فقر – بعيدا عن البعد الجغرافي – هناك العديد من الدول تشهد معدلات غير مسبوقة في تاريخها في النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية وتعمل على تحسين الممَكّنات والقدرات الأساسية للعيش بكرامة. هذه الدول مع قلة عددها مقارنة بالتي تعانى تفاقم الفقر تجمعها عوامل نجاح مشتركة، من أهمها قدرتها على الاستجابة السريعة للأزمات، وقدرتها على التخفيف من حدة الآثار الأزمات الاقتصادية، وأيضا تمتلك هذه الدول خططا استراتيجية طويلة المدى لتنويع مصادر الاقتصاد والدخل القومي، والاهتمام بالمشروعات الإنتاجية على حساب المشروعات الاستهلاكية، وترتيب الأولويات التنموية اعتمادا على دراسة حقيقية للوضع الراهن، وتحديد الاحتياجات الفعلية للوصول الى الاكتفاء من السلع الأساسية على الأقل، واستغلال الموارد البشرية بدلاً من التباكي على زيادتها، مع عدم اغفال خطط الحد من الزيادة غير المنضبطة في التعداد السكاني. ومن اهم الاليات أيضا رفع الوعي المجتمعي بأهمية دور الفرد في بناء المجتمع، وتوحيد المجتمع حول مشاريع واهداف وطنية يشترك الجميع في تحقيقها، والسير بالتوازي في كل هذه المسارات مع مسار هام هو مكافحة الفساد، ومحاصرته والحد من اثاره، وتفعيل اليات النزاهة وإقصاء الانتهازيين المتربحين من مناصبهم والإضرار بتاريخ مؤسساتهم واضعاف دورها الوطني خاصة المؤسسات المعنية بالحد من الفقر والجوع.
الدول التي تعاني الجهل والفقر والمرض، تواجهه بالعمل على تطوير التعليم ورفع الوعي وتحسين سبل العيش وتحسين الخدمات الصحية، وتبتعد عن الشعارات، وتبطل مفعول وسائل إلهاء الشعوب وانصرافهم الى قضايا لا تسمن ولا تغني من فقر او جوع. الناس تحتاج للقضاء على الفقر إلى من ينظم جهودها، ويعظم الاستفادة من طاقتها، وحماية ممكّناتها، وترتيب أولوياتها، والارتقاء بكل ما يمكنها من العيش الكريم. هذه الدول هي فقط التي من حقها ان تحتفل باليوم العالمي للقضاء على الفقر، وتستعرض إنجازاتها في تحقيق أهداف هذا اليوم، أما غيرها يكون حديثها عن مثل هذه الشعارات مثل “مَنْ ضيّعَ في الأوهامِ عُمرَه … نَسِيَ التاريخَ أو أنسِيَ ذِكرَه”.