الدكتور احمد اسماعيل يكتب:
في التاسع من مارس من كل عام، تتجدد ذكرى العظمة، ونقلب في كتاب ذاكرة الوطن صفحات كتبت بأرواح الأبطال ودماء الشهداء، الذين لم تزل ذكراهم حية في نبض قلب هذا الوطن. حينما ارتقى الفريق عبدالمنعم رياض شهيدًا على خط النار خُلّدت ذكرى رحيله رمزيّة للشهيد قائدا او جنديا، فكان يوم استشهاده أيقونة للفداء عندما ارتقت روحه الطاهرة في موكب الخلود لتستقر حيث لا فناء.
يوم الشهيد هذا العام ليس ككل عام، فهو يأتي في وقت تتكالب فيه المكائد، وتُحاك فيه المؤامرات وتسقط فيه الأقنعة التي تخبئ خلفها أحقاداً دفينة ونوايا مبيتة ضد اوطاننا منذ قرون لتحقيق اطماع توسعية لكيانات بغيضة وأقليات لقيطة تريد لها وطناً على حساب أمم وشعوب،
يأتي يوم الشهيد في وقت تشتد فيه الرياح العاتية التي يحسبها الواهمون أنها قادرة على اقتلاع الجذور، لكن أنّى لخشاش الأرض وهوامه أن تقتلع جذوراً ضاربة في عمق الوطن بامتداد تاريخه منذ ان أراد الله للإنسان أن ينشيء الدُوَل ويُعمِر البلدان. أنّى لأبناء الشوارع الذين لا يعرفون لهم أباً أن ينازعوا أبناء الأعراق والأمجاد في أنسابهم وأعراقهم أو يساوموهم على أعراضهم.
في هذا اليوم، تتردد أصوات الشهداء كأنها نداءات قادمة من عالم الخلود، تطالبنا بتجديد العهد مع مصر التي حماها الأجداد بأن أبناءها لن يسمحوا بالسقوط، وأننا نعي ما كتب سالفاً بمداد دماء الشهيد من رسائل صريحة، أنه واهم من ظن أن الوطن لقمة سائغة للجياع، وأن الأرض التي رويت بدماء الأطهار قابلة للاختراق، وأن راية العزة التي عانقت السماء يمكن ان تنكسها مؤامرات خبيثة او دسائس حاقدة.
يوم الشهيد هذا العام يحمل خصوصية، حيث أن التضحيات لم تعد مجرد تاريخ يُروى، ولكنها بطولات على استعداد ان تتكرر مع كل محاولة للنَيل من هذا الوطن، قادره على قطع كل يد تحاول العبث بثوابتنا.
في يوم الشهيد نجدد ثقتنا ونؤكد على تمام إدراكنا أن مصر لا تنحني إلا لله، وأن أبناءها هم درعها الذي لا يصدأ، وسيفها الذي لا يُغمد، وأن من يظن أن زمن الفداء قد ذهب فهو واهم، لأن روح الشهيد تسري في كل ذرة من تراب الوطن ومع كل وليد ينبت في رحم هذه الارض،
في هذا اليوم نُعْلي قيم الوفاء ونقول للشهيد أن البقاء لمن يُضحي، وأن المجد لمن يَصون، وأن مصر باقية بأبنائها، حافظة حق شهدائها، محمية بقدرة الله ثم جيشها وجنودها، وأن كل من ظن أن مصر قد تهون علينا، سيكتشف أن روحه ستُزهَق على أعتابها وتُسحَق تحت نعال مع يفديها.
تحمل ذكرى هذا اليوم المجيد رسالة للأجيال مفادها ما أعظم أن يفدي الإنسان وطنه بروحه، ويدفع نفسه بنفسه إلى مغادرة الدنيا في ريعان شبابه رغم إدراكه أن وراءه قلوبًا تنكسر ألمًا لفراقه، وأعينًا ستبكيه ما ذكرته شوقًا وحنينًا، وأرواحًا ستظل تتوجع على غيابه، لكنه المصري الثابت على العهد لا يتراجع، ولا تزلزل قلبه العواطف، ولا تأخذه مشاعر الوَهَن او الضعف، بل يقرر أن يختار المواجهة واضعا روحه امام خيارين لا ثالث لهما، بين مجدِ انتصارٍ يُكتب بحروف من نور في سجلات الخالدين، أو شهادة تكون الطريق لجِنان عرضها السماوات والأرض لمن كانوا على العهد صادقين.
يحمل يوم الشهيد إلينا رسائل تتجدد أن الوطن للمصري ليس مجرد أرض يعيش عليها، ولا مجرد سماء يستظل بها، ولكن الأرضَ بالنسبة لنا هي الهوية التي تسري في عروقنا، هي العرض الذي يُحمى، والأمانة التي تُصان، هى الذكرى التي نحملها في ملامحنا من يوم ان وعينا الحياة الى أن نفارق الحياة،
يوم الشهيد يعلّم الاجيال التي لم تعاصر الحروب او تقرأ عنها أن الوطن ليس كلمة نرددها، بل عهدٌ نحمله في أعناقنا، فإذا ما استنجد بنا، كنا سيفه ودرعه، وكنا الأسوار العالية التي تتكسر عليها أطماع الأعداء. وكان جيشها بحر الأمواج العاتية التى تُغرِق وتبتلع أساطيل المعتدين.
كل حروب وطننا تؤكد أن المصري ما حركته يومًا أطماع في أرض غيره، ولا اعتدى على حق لم يكن له، لكنه إن استُنفِرَ هبّ مدافعًا، وأصبحَ إعصارًا مدمّراً، وعاصفة لا تُبقى من عدوها الا أثر عار هزيمته،
فإذا دقت طبول الحرب سوف يلبي أبناء الشهداء النداء، لأنهم ورثوا من آبائهم البأس والفداء، وتعلموا من دروس التاريخ أن المساس بأرضهم وعِرضهم دونه الأرواح والدماء.
في يوم الشهيد، تنحني الهامات إجلالًا وامتناناً لمن وقفوا على حدود الوطن دروعًا لا تنكسر، تحية في يوم الشهيد للذين صدقوا العهد، فجادوا بالحياة ليحيا الوطن مهابًا لا تطأه قدم معتدٍ ولا يدنس ترابه غاصب او متآمر.
حفظ الله مصر