بقلـم دكتـــــورة / سـمــاح بـــاقــي
” قراءة تحليلية في اعتبارات الثقة في الموظف العام ”
إنهاء خدمة الموظف المدان بخيانة الامانة جسر الثقة بين المواطن والوظيفة العامة
أفصح المشرع المصري في نص المادة (69) من قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016 إفصاحاً واضحًا في دلالته، الحكم النهائي على الموظف العام في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة يفقده الثقة والاعتبار اللازمين لبقاءه في الوظيفة العامة، غير أن التطبيق العملي يفتح مساحة للتأمل القانوني الهادئ: من ناحية كيف تمارس جهة الإدارة التزامها بالنص عندما يصدر حكم جنائي في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة؟ وهل يظل الامتناع عن إنهاء الخدمة موقفًا مشروعًا في كل الأحوال، أم أن المشروعية تقاس بمنهج التعامل لا بمجرد النتيجة؟
بين السبب القانوني و الاختبار العملي
لم ينشئ المشرع الحكم الجنائي كجزاء تأديبي، بل اعتبره سببًا من أسباب انتهاء الخدمة، وهو اختيار تشريعي يعكس قناعة بأن بعض الأفعال تفقد الموظف شرطًا جوهريًا للاستمرار في الوظيفة، هو شرط الثقة والاعتبار، ومع ذلك، لم يجعل القانون الإنهاء آليًا، بل اشترط صدور قرار إداري من السلطة المختصة، وفق ما قررته اللائحة التنفيذية، بما يحول النص من قاعدة جامدة إلى أداة تقييم قانوني.
وهنا تحديدًا يبدأ الاختبار الحقيقي: فالإدارة لا تسأل فقط عن القرار الذي تتخذه، بل عن الطريقة التي وصلت بها إليه.
السلطة التقديرية لجهة الإدارة .. مساحة للفهم لا للتجاوز
استقر قضاء المحكمة الإدارية العليا على أن للإدارة، في بعض الحالات، سلطة تقديرية في تقدير مدى صلاحية الموظف للاستمرار في عمله، خاصة إذا كان الحكم لأول مرة. غير أن هذه السلطة ليست فراغًا قانونيًا، بل مساحة مقيدة بغاية النص وروحه.
فالتحليل القضائي لا ينظر إلى الامتناع أو الإنهاء بوصفه صوابًا أو خطأ في ذاته، وإنما ينظر إلى التسبيب: هل درست الإدارة طبيعة الجريمة؟ هل وازنت بين الحكم الجنائي ومقتضيات الوظيفة؟ أم اكتفت بالصمت الإداري وترك الوضع على ما هو عليه؟
إشكالية إسناد المهام في ظل اهتزاز الثقة
يبرز في هذا السياق تساؤل عملي لا يقل حساسية: ما هو نوع المهام التي يمكن إسنادها إلى موظف صدر بحقه حكم في جريمة مخلة بالأمانة، ولم تنه خدمته بعد؟
فالوظيفة العامة لا تقوم فقط على أداء إجراءات شكلية، بل على عنصر غير مكتوب هو الاطمئنان إلى السلوك الوظيفي، وعندما يهتز هذا العنصر، يصبح من المتعذر – منطقيًا وقانونيًا – إسناد مهام تنطوي على تصرفات مالية، أو سلطات رقابية، أو تعامل مباشر مع حقوق المواطنين أو بياناتهم، أو حتى مهام تحتاج لرأي فني مجرد.
وفي هذه الحالة، قد تلجأ الإدارة إلى إعادة توزيع المهام، أو إسناد أعمال ذات طابع محدود، كحل تنظيمي مؤقت يهدف إلى حماية المرفق العام.، غير أن هذا الحل، رغم وجاهته الظاهرة، يظل كاشفًا عن تناقض دقيق: فإذا كانت الثقة شرطًا جوهريًا للوظيفة، فكيف تستقيم الرابطة الوظيفية مع تجريدها من مضمونها؟
متى يتحول الامتناع إلى إشكال قانوني؟
لا يقيم الامتناع عن إنهاء الخدمة بمعزل عن أسبابه. فإذا كان قائمًا على دراسة قانونية مسببة، ظل داخل نطاق المشروعية، ما إذا خلا من التسبيب، أو استند إلى اعتبارات غير متصلة بطبيعة العمل أو المصلحة العامة، فإنه يثير إشكالًا قانونيًا مشروعًا حول مدى احترام النص التشريعي وغاياته.
وفي هذه المنطقة الرمادية، لا يكون الخلاف حول تفسير النص بقدر ما يكون حول منهج تطبيقه.
خيانة الأمانة كنقطة اختبار
تعد جريمة خيانة الأمانة المثال الأوضح على هذا التحدي التحليلي. فهي جريمة تمس جوهر الثقة، وتلقي بظلالها على الصلاحية الأخلاقية قبل القانونية. ومن ثم، فإن إبقاء الموظف المدان بها في موقعه الوظيفي – حتى مع تقليص مهامه – يفرض على الإدارة عبئًا مضاعفًا في التسبيب، ويجعل قرارها محل فحص دقيق حال عرضه على القضاء.
إن تطبيق المادة (69) لا يطرح سؤالًا عن مدى قسوة النص، بل عن دقة ممارسته. فالمسألة لا تتعلق بإنهاء خدمة أو استمرارها بقدر ما تتعلق بفهم الوظيفة العامة باعتبارها مسؤولية قائمة على الثقة. وحين تهتز هذه الثقة، يصبح كل قرار إداري – سواء بالإنهاء أو بالامتناع – محتاجًا إلى تبرير قانوني واضح، لأن الصمت في هذه الحالة ليس حيادًا، بل موقفًا له دلالته…….وللحديث دوماً بقية

























