دكتــــــــورة / سماح باقي تكتب ………
قراءة تحليلية في فلسفة التحديث وتحديات التنفيذ
مع صدور القانون رقم 174 لسنة 2025، تدخل مصر مرحلة مختلفة من التفكير في العدالة، وعلى الرغم من أن منهجية التحليل الاقتصادي للقوانين لازالت محدودة الانتشار في الوساط القانونية ، إلا أنه ومع التعديلات التشريعية تدخل مصر مرحلة تتجاوز منطق “النصوص” إلى منطق “الكفاءة”.يحتم علينا تناولهاا من زاوية اقتصادية ، فالقانون الجديد لا يعيد ترتيب مواد الإجراءات الجنائية فقط، بل يعيد كذلك ترتيب طريقة الدولة في إدارة العدالة نفسها، فمن عدالة مرهقة… إلى عدالة محسنة، ومن إجراءات مكدسة… إلى إجراءات رشيقة، ومن تكلفة مرتفعة… إلى تكلفة مدروسة….
هكذا نرى القانون أكبر من مجرد إصلاحات قانونية، بل إعادة هندسة اقتصادية لمرفق العدالة.
العدالة كمنظومة تكلفة – لماذا تعد الكفاءة محوراً للقانون الجديد؟
تأخر الفصل في القضايا، وتكدس الحبس الاحتياطي، وارتفاع تكاليف النقل والتأمين والحراسة… لطالما كانت مشكلات ليست فقط إجرائية ، بل لا غرو في القول بأنها اقتصادية في المقام الأول.
و من ثم فإن القانون الجديد يبدو واعياً بهذه الحقيقة، إذا ما تعامل مع العدالة على أنها مورد عام له تكلفة تشغيل وخدمة اجتماعية ينبغي أن تقدم بكفاءة، وركيزة اقتصادية تؤثر في الاستثمار والسوق والعمالة ، ومكون للثقة في بيئة الأعمال وبالتالي فإن تحديث الإجراءات ليس تجميلًا للنظام، بل استثمارًا في بنية الدولة.
بدائل الحبس الاحتياطي – اقتصاديات تقليل الضغط
أصبح الحبس الاحتياطي في السنوات الماضية منطقة ازدحام إداري وعبء اقتصادي كبير. ولا يتعلق الأمر بعدد السجناء فقط، بل بمنظومة كاملة تشتمل على أماكن الإيواء ، و النقل والحراسة و الإنتاجية المفقودة للمتهم
هذه مجرد أمثلة ، وغير ها الكثير ، و حين يأتي القانون ويوسع من نطاق البدائل كعدم مغادرة المسكن، أو الحضور الدوري، أو حظر ارتياد أماكن، فهو لا يخفف الضغط على السجون فقط، بل يعيد توزيع التكلفة من “كلفة احتجاز” إلى “رقابة ذكية” أقل تكلفة وأكثر فعالية.
التحقيق والمحاكمة عن بعد – اقتصاد التقاضي في عصر السرعة
في رأي الكاتب أن المحاكمة عن بعد هي أقوى نقطة تحول في القانون الجديد، لأنها ليست مجرد خطوة تقنية، بل خطوة اقتصادية بامتياز، فهي توفر ما تستهلكه الجلسات التقليدية من نقل للمتهمين و حراسة وقاعة ووقت ضائع في الانتظار….إلخ
كل ذلك يستبدل بعملية أكثر سرعة وانضباطًا، منخفضة التكاليف المالية والزمنية ، دون التأثير على الإنتاجية مع سرعة الفصل في القضايا، وهذا هو جوهر “اقتصاد العدالة”.
التصالح في الجنح – تحويل النزاع إلى قيمة اقتصادية
إذا كان الحبس الاحتياطي يشكل تكلفة مرتفعة، فإن القضايا المتراكمة تشكل تكلفة مضاعفة.
ومن هنا جاء توسيع نطاق التصالح في الجنح والمخالفات كخطوة لتحويل الجزاء من النزاعات إلى إيرادات عامة، وإعادة ترتيب أولويات القضاء حسب خطورة القضايا
أما تسوية جرائم المال العام عبر لجان خبراء، فهي خطوة أكثر جرأة، لأنها تسعى لاستعادة الأموال وليس فقط الحكم بالعقوبة.
الضمانات الجديدة – حين تتحول حماية الحقوق إلى قيمة اقتصادية
أعلم جيداً، أنه ليس من الشائع أن تقرأ ضمانات المتهمين من زاوية اقتصادية، لكن الحقيقة أن التوقيف العشوائي وغياب التمثيل القانوني وما يشابه ذلك من أمور، هي جميعاً تكلف الدولة والمجتمع ثمناً باهظاً.
فالمستثمر قبل المواطن يريد بيئة قانونية واضحة، ومنظومة قضاء لا تحمل مفاجآت أو مخاطر إجرائية وحين يضمن القانون ذلك، فهو يؤسس لثقة أكبر في النظام القانوني ولنظام قانوني له أثر اقتصادي مباشر.
العدالة الناجزة وتحسين ترتيب مصر في مؤشرات الثقة
كل خطوة في هذا القانون تسهم في تحسين موقف مصر في مؤشرات مثل Rule of Law
Ease of Doing Business ، Judicial Efficiency ، Transparency
فهذه ليست “مصطلحات دولية” فقط، بل هي عناصر تحدد حجم الاستثمار و تكلفة رأس المال وقدرة الدولة على جذب الاستثمارات، وتنافسيتها في المنطقة ، وهذا يربط مباشرة بين تحديث الإجراءات الجنائية وتحسين الاقتصاد الكلي.
ولكن…هل تكفي النصوص أم نحتاج تغيير الثقافة المؤسسية؟
رغم أهمية القانون الجديد، يبقى نجاحه مرهوناً بقدرة المؤسسات على تنفيذ روح القانون لا نصوصه فقط.
ومن أبرز التحديات:
. البنية التقنية للمحاكمة عن بعد
فهل تمتلك المحاكم والبنية التحتية التقنية الكافية؟ و هل سيتم تدريب العاملين عليها؟هل ستصبح “قاعدة” أم “استثناء”؟
ثقافة العدالة السريعة داخل المؤسسات
نصوص القانون بالفعل قد تختصر الإجراءات، لكن الأجهزة تحتاج إلى تغيير نمط العمل وتقليل البيروقراطية وإعادة توزيع للموارد
تحديات تطبيق بدائل الحبس الاحتياطي
هذه البدائل تتطلب أدوات رقابية فعالة، وتعاوناً بين عدة جهات، وتدريباً واسعاً.
قابلية التصالح للتطبيق دون إساءة استخدام
مع ضرورة وجود ضمان حتى لا يتحول التصالح إلى “مدخل تحايل” في بعض الجرائم، هو “نظام تشغيل
“تحديث المهارات” قبل تحديث الإجراءات….الإصلاح الحقيقي يبدأ حين يتحول القانون إلى ممارسة
القانون رقم 174 لسنة 2025 هو محاولة جادة لربط العدالة بالكفاءة، وربط القضاء بالاقتصاد،
وإذا نجح التنفيذ، ستكون مصر أمام جسور جديدة نحو عدالة أسرع و أقل تكلفة و أكثر انسجاماً مع العصر وأكثر قدرة على دعم النمو الاقتصاد
إنه قانون ينقل العدالة من “ساحة تنظيم” إلى “مرفق إدارة” ومن “نظام بطيء” إلى نظام فعال اقتصادياً ”
وذلك هو جوهر الإصلاح….وللحديث دوماً بقية

























