ما حدث في ليلة رأس السنة ثم بعده بساعات في دار الأدباء في قلب القاهرة التي كانت منارة الإبداع والثقافة والتنوير في العالم العربي يرصد دون مواربة حال المثقفين في مصر الذين ارتفع سقف طموحاتهم إلى إقامة ندواتهم تحت أضواء لمبة كهرباء ، بينما على بعد عدة أمتار دفعت الملايين لشراء تذاكر حفلات الرقص والعري في ليلة رأس السنة التي ضجت بها قاعات الفنادق الكبرى في عاصمة المعز .
لست ضد الاحتفال بأي مناسبة أو ضد الترويج للسياحة لكن ضد البذخ والإنفاق والتبذير في وقت نحتاج فيه هذه الملايين لتشغيل ملايين العاطلين أو علاج آلاف المرضى أو دفع الاقتصاد الذي يعاني من أزمات ومشاكل عديدة .. لكن يبدو أن الرهان على تعري الراقصات بات يجني الملايين بدليل أن قيمة تذكرة أحد هذه الحفلات يكفي قوت أسرة مصرية طول العام ..
حتى لا اتهم بالحقد الطبقي أو الرجعية أو التخلف في زمن بات فيه تقييم الإنسان يرتكز على مظهره ومنصبه وسيارته الفارهة وحديثه باللغات الأجنبية أؤكد أنني لست وحدي الذي يشعر بالاستياء لهذا التناقض في أحوالنا لكن هناك ألوف يرون أن ما يحدث في مصر يحتاج إلى وقفة لعلاج هذا الخلل في منظومة القيم والمبادئ والأخلاق بعد صعود الحثالة لصدارة المشهد وتواري النخبة ..
وعلى بعد أمتار من أحد الفنادق التي شهدت إحدى هذه الحفلات حضرت يوم الاثنين الماضي ندوة ثقافية في دار الأدباء بشارع القصر العيني على أضواء الشموع لانقطاع الكهرباء ونظرا للقيمة الكبيرة لصاحبة الدعوى الروائية والشاعرة المبدعة هدى أبو العلا أصر نخبة المبدعين الحاضرين على حضور الندوة وكأنهم يوجهون رسالة لوزير الثقافة بأن يعفر حذائه اللميع ويذهب ليرى الحال المتردي لصرح ثقافي كبير .
وبالبحث والتحري علمت أن دار الأدباء التي أشبه بقصر عتيق تاريخي أنيق بناها تاجر مصري في بداية القرن العشرين وأهدى المبنى لعبد الرحمن فهمي العقل المفكر لثورة 1919 ليدير منه النضال الوطني ضد الاحتلال الانجليزي، وفيه دار العديد من الحوارات وعقد العديد من الجلسات التي مهدت لثورة 1919.
وكانت تستضيف كبار الكتاب والشعراء والمثقفين من مصر والدول العربية والأجنبية .. لكن الآن تكسو جدرانه الشروخ وعلامات الزمن التي قد تتسبب في سقوطه على رأس من فيه في أي لحظة ، فضلا عن سوء حالة الحوائط والأرضيات ، وكذلك المرافق من كهرباء ودورات مياه هكذا أصبحت حال واحدة من أقدم الجمعيات الأدبية في مصر .. ودار الأدباء أو جمعية الأدباء أسسها يوسف السباعي سنة 1957، وترأسها كما ترأس نادي القصة واتحاد الكتاب وجمعية الكتاب الافروآسيويين، وبعده ترأسها ثروت أباظة, قبل أن يخلفه الشاعر محمد التهامي.
كما أن الشاعر الراحل نزار قباني ألقى قصائده على الجمهور المصري لأول مرة في “دار الادباء” في ستينيات القرن الماضي .. وكذلك الشعراء بلند الحيدري وسعدي يوسف وهارون هاشم الرشيد ومعين بسيسو وعبدالعزيز المقالح وعلوي الهاشمي وغيرهم الكثير ، وتأخذ الجمعية دعما محدودا للغاية من صندوق التنمية الثقافية للنشاط الثقافي وهذا الدعم غير مخصص لترميم أو لاحياء المبنى من جديد .. وزير الثقافة حلمي النمنم أرحم المثقفين يرحمك الله ..