كتب دكتور / احمد اسماعيل
رئيس اللجنة العامة للتخطيط والمتابعة، وعضو الهيئة العليا لمؤسسة القادة للعلوم الإدارية والتنمية
في مثل هذا اليوم من كل عام، يقف العالم – وإن بخجلٍ بالغ – لإحياء اليوم الدولي للسكان الأصليين في العالم، وإن كانت الأمم المتحدة لم تجرؤ على تحديد مسمى بعينه للسكان الأصليين لأسباب معروفة ولكنها اعتمدت المعايير التى تصنف بها الشعوب الأصيلة بدءا من التاريخ والارتباط بالأرض والتميز الثقافي والحفاظ على الهوية ، ليصبح اليوم الدولي للسكان الاصليين في العالم مناسبة لكل الشعوب الاصيلة، أولئك الذين لم يكونوا طارئين على الأرض، بل كانوا نبتها، وأصلها، وروحها. هم الذين لم يصطنعوا هويةً ولا انتحلوا تاريخًا، بل صنعوا التاريخ على صخور الجبال، وفي قيعان الوديان، وبدماء الشهداء والزرّاع والصيادين والفلاحين الذين خضّبوا الأرض بعشق لا يزول.
إن الشعوب الأصيلة باقية لأنها تنتمي، لأنها متجذّرة. لم تأتها الأرض من بحر، ولم تهبط عليها بالمظلات، ولم تُجمع من شتات الخرائط. الشعوب الأصيلة باقية لأنها لا تعرف المنفى، وإن نُكّلت بها الحروب، وإن حاولت قوى الطغيان نفيها من جغرافيا التاريخ. لكن الشعوب التي خُلقت من الأرض، وارتوت بها، لا تُقتلع. ومهما تكالبت قوى البطش والاستعمار والاستيطان، فإن مصيرها إلى زوال، وتبقى الأرض لأهلها، ولمن عاش فيها لا لمن جاء غريبًا يدّعي الملكية وهو لا يعرف حتى أسماء جبالها أو طعم هوائها.
لقد شهد التاريخ كمًّا هائلًا من محاولات الإبادة، من الأميركيتين إلى أستراليا، ومن أفريقيا إلى آسيا، وكم من أمم تعرضت للذبح والحصار والطمس! لكن ماذا بقي؟ بقيت الشعوب الأصيلة، بأزيائها، ولغاتها، وطقوسها، ومقاومتها. أما المستعمرون، فانسحبوا واحدًا تلو الآخر، يحملون عار الهزيمة، وإن ادّعوا أنهم “أنهوا المهمة” طوعًا. الحقيقة أن المحتل لا يرحل إلا حين يوقن أن لا بقاء له في أرضٍ تنبذه، وفي وجه شعب يرفضه. إرادة الشعب أصلب من دباباتهم، وأصدق من دعايتهم، وأقوى من جيوشهم.
وفي هذا اليوم، لا يمكن أن تُذكر الشعوب الأصيلة دون أن يُرفع الصوت عاليًا باسم فلسطين، وخاصة غزة، التي تخوض بصمودها أشرس معارك العصر بين صاحب الأرض، والمغتصب. بين شعبٍ أصيلٍ جذوره ضاربة في التاريخ، وكيانٍ لقيطٍ لُفّق تاريخه من أساطير، وجُمع أهله من أطراف الأرض دون رابط أو أصل أو ماضٍ مشترك. إن ما يمارسه الكيان الصهيوني من تجويع، وقتل، وحصار، ليس سوى محاولة بائسة لاجتثاث ما لا يُجتث، وقمع ما لا يُقمع. لكن دماء الأطفال، وركام البيوت، وصلابة الشيوخ، كلها تقول للعالم: إنهم في أرضهم باقون، وإن الحق لا يُمحى مهما طال الظلم.
والرسالة ليست فقط إلى إسرائيل، بل إلى كل أنظمة القهر والطغيان، إلى كل من يحاول طمس الشعوب الأصلية، ونهب ثرواتها، وزرع كيانات هجينة في أرض ليست لها. فهذه الكيانات، التي وُلدت من رحم الاستعمار، لا يمكن أن تنبت لها جذور. إنها كالعشب الشيطاني، قد يعلو حينًا لكنه لا يثبت، ولا يُثمر، وسرعان ما تجرفه رياح المقاومة والوعي والصمود.
وهنا، تقف مصر، بتاريخها العميق، وشعبها الأصيل، وجيشها الذي صهرته الحروب، لتذكّر العالم كيف تبقى الشعوب رغم كل المؤامرات. من قادش، إلى عين جالوت، إلى أكتوبر المجيد، تسطّر مصر ملحمة من الثبات، تصدّر فيها رسالة واضحة لكل من تسوّل له نفسه العبث بذرة من ترابها: أن التاريخ لا يُزوّر، وأن الدماء التي حمت الأرض ستظل عهداً لا يُخان، وأن العار وحده من يلاحق المعتدين.
في يوم الشعوب الأصيلة، نقول للعالم: هذه الأرض ليست سلعة للبيع، ولا وطنًا يُخلَق بقرار دولي، ولا هوية تُكتب على ورق مزوّر. الأرض تنطق باسم أهلها، وتنبض بجذورهم، وتحتفظ بعظام أجدادهم، وتنتظر أبناءها ليعودوا، لا ليُستبدلوا.
عاشت الشعوب الأصيلة حرّة أبية، عاشت غزة، وعاشت فلسطين، وعاشت كل أرضٍ يقف فيها أصحابها، رافعين راية: “هنا نحن، وهنا نبقى، وهنا سننتصر.”

























